خواطر مواطن مهموم «42»

خواطر مواطن مهموم «42»
توفيق اكليمندوس

توفيق اكليمندوس

6:24 ص, الأحد, 14 يونيو 20

فى مقالة سابقة قلنا إن المقارنة بين سمات وتجارب ومسارات تاريخية لدول ما، أمر قد يكون ملهماً رغم اعتراض الكثيرين عليه.

من يعترض عليها يؤسس رفضه لها إما على استحالتها وعدم جدواها وإما على صعوبة إجرائها. والبعض يذهب هذا المذهب لأسباب منهجية وعلمية، والبعض الآخر تحركه أساساً اعتبارات أيديولوجية ومشاعر وطنية أو دينية.

التذرع بالخصوصية لرفض الوافد موقف قديم ويؤسفنى أن أخبر أصحابه أنه ألمانى المنشأ، وهو رد فعل فكرى محكم على مقولات الفرنسيين والبريطانيين فى القرن الثامن عشر، الذين رأوا أن تجربتهم أو نموذجهم المبنى على إحلال التفكير العلمى محل التفكير الغيبى ومحل تقاليد بالية، وعلى بث روح التسامح بين الملل وعلى التنظير لها.. إلخ، رأى الفرنسيون والبريطانيون فى نموذجهم هذا «الطريق الأوحد إلى الحضارة» على الجميع سلوكه، ويلاحظ أن هذا الكلام يكرس الريادة الفرنسية البريطانية ولكنه لا يقول إن هذا الطريق مغلق أمام الشعوب «المتخلفة».

واختلفت الردود الألمانية – لمن لا يعرف كانت الإمارات الألمانية متخلفة نسبيا عن فرنسا وبريطانيا فى القرن الثامن عشر- بين من تبنّى فكر التنوير ومن رفضه، ومن رفضه قال أن العقل دون إرادة ودون عواطف جياشة تدعمه، لا يساوى الكثير، وأن الطريق إلى الرقي والحضارة ليس واحداً، ولكل شعب ثقافته، وأن كل ثقافة تمثل إضافة لا ثمن لها فى تاريخ البشرية، وأن اختفاء أى منها خسارة للبشرية كلها. ومهد هذا الكلام لظهور النعرات والفكر القومى… هردر صاحبه أكبر سنا من فيخته صاحب «خطاب إلى الأمة الألمانية» بحوالى 18 سنة. وكتاب فيخته هو أول كتاب مهم ينظَّر للخصوصية الوطنية…أسسها هو على علاقة اللغة الألمانية بالمجتمع وبيئته، فهى بنته، على عكس الفرنسية مثلاً ولغات أخرى، والتى تعد جميعا بنات اللغة اللاتينية أى بنات مجتمع آخر اندثر، ورتب على هذا الفارق تبعات تؤكد تفوق الألمان… وهذا الكلام لا يصمد كثيراً أمام أى تحليل علمى رصين، ولكن عرض هذا ليس موضوعنا الآن، وعلى القائلين بالخصوصية المطلقة لشعب ما… خصوصية تحول المقارنة إلى عبث… أرد: وكيف لك أن تعرف أن هذه الخصوصية مطلقة إن لم تحاول التعرف على تجارب أخرى؟ بل على كل التجارب الأخرى؟ وبعد إطلاق هذا السهم أعود وأقر أن الواقع متنوع تنوعاً يسمح بالقول إن كل دولة لها خصوصية وتختلف عن الأخرى، بل حالتها فى مرحلة تختلف عن حالتها فى مراحل تالية أو لاحقة اختلافاً جذرياً… ولكن هذه الخصوصية لا تمنع المقارنة بل تحتمها. من الواضح أن كلمة خصوصية تفترض إن كنا جادين إجراء مقارنة دقيقة مع الآخر.

الأصحُّّ فى رأيى أن المقارنة مقاربة محفوفة بالمخاطر ومن السهل جدا أن تضل طريقها، ولكنها ما زالت ضرورية لا للنقل بل لتعميق فهم للخيارات الممكنة، والمخاطر الواردة، والاستراتيجيات اللازمة، هى خطرة لأن الباحث يواجه احتمال الوقوع فى فخ القول بالتطابق الكامل أو بالتضاد الجذرى بين الدولتين، فى حين أن الواقع يكون غالباً أقل حدة، وخطر استخدام الإحصائيات فى غير محلها، وخطر إساءة تقدير دور كل من الثقافة السياسية والحظ والموقع الجغرافى والروح المعنوية للشعوب.. إلخ.

طبعاً إجراء مقارنة يقتضى توجيه أسئلة للمجتمعات موضوع المقارنة. وتوجيه سؤال مشترك يفترض أن هناك قضية أو تحدى تعامل معهما كل من المجتمعات المدروسة أو فئات منها. والخطر هنا قيام الباحث بافتراض وجود تحد أو قضية وهما غير موجودين أصلاً، وهذا أمر نادر الحدوث، إلا أنه يحدث، وهناك أحوال يطرح الباحث سؤالا تعامل معه كل المجتمعات، ولكنه كان محوريا فى دول، وثانويا فى دول أخرى.

يتبع

 * أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية