أمضيت الأيام العشرة الماضية قارئًا لمؤلفات ومقالات عن السياسات الأوروبية، وتحديدًا عن ألمانيا وروسيا وكيف يراها الأكاديميون الفرنسيون.
اهتمامى بروسيا قديم وبدأ مع المراهقة فى السبعينات من القرن الماضي، الآباء اليسوعيون نصحونى بقراءة دوستويفسكي، والعائلة شجعتنى على قراءة تولستوي، وسياسيا كنت أحس بأن السادات تصرف بنوع من الخسة مع الاتحاد السوفييتي، ولم يكن هناك أى شيء فى قراءاتى يدعونى إلى الإعجاب بالولايات المتحدة، لا الكتب الفرنسية، ولا الكتب العربية المتاحة كانت تشجع على حب أمريكا.
ما كان مذهلًا هو القدرات الهائلة للعملاقين الروسيين على الغوص فى الدهاليز المظلمة للنفس البشرية بطرق مختلفة، واستفدت جدا من نصيحة ناقد فرنسي، قال إن قراءة دوستويفسكى تحتاج إلى اعتكاف كامل، وقراءة مستمرة لا تنقطع قبل الوصول إلى الصفحة الأخيرة، أما تولستوى فيمكنك قراءة عدد من الصفحات ثم تركه للذهاب إلى العمل أو لفتح كتاب آخر ثم العودة إليه. ونفس الناقد لفت نظرى إلى كون دوستويفسكى لا يجيد قراءة النساء – إلا المتسلطات منهن- على عكس تولستوي.
وأعترف بإن خطاب دوستويفسكى المكفر للغرب والكاره للبرجوازى المادى محدود الاهتمامات، لم يضايقني، رغم أننى كنت شديد الإعجاب بفرنسا أيامها، ولم أنتبه إلى سخافة مقولاته. كنت منبهرًا بالمبارزة الفكرية بين إيفان وأليوشا كرامزوف، وبمحاولة أليوشا تقليد المسيح.
والجو الفكرى فى المدرسة كان مساعدا لبث أفكار أو توجهات يسارية، يصاحبها نوع من التعالى الممزوج بعقدة الذنب، الآباء اليسوعيون كانوا يقولون دائمًا إننا نعيش فى مجتمع شديد الفقر وأن علينا مسئوليات تتلخص فى خدمة الوطن، بدءاً بأغلبيته المستضعفة، وكانوا يفرضون علينا زيارة أسر معدومة وفقراء فى مرض الموت، وكانت مشاعرى متباينة، كنت أحب الوطن ومدركًا لوجود فقراء، وفى المقابل كنت ملولا، لأننى كنت أسمع الخطاب نفسه فى البيت العائلي، ولم أكن أجرؤ على أن أقول «الرسالة وصلت»… وبين الحين والآخر كان الآباء ينظمون حملة لجمع التبرعات، ولم أكن أحب أن أطلب مالًا من عائلتي.
وكانت رواية أندريه مالرو عن الثورة الصينية مقررة علينا، وكان بطلها يفرض نفسه نموذجًا يحتذى. وأتذكر جلسات مع مدرس اللغة الفرنسية الأب فلورى يتحدث فيها عن إنجازات النظام الصيني، وأظن أن الفكرة الحاكمة لكلامه هى أن الحرية فى بعض الدول ترف للمرفهين، عليهم أن يتنازلوا عنه عن طيب خاطر إن أدى ذلك إلى إخراج ملايين من البشر من دائرة الفقر.
ومع إنهاء الدراسة الثانوية تغيرت الأحوال لأنه أتيحت لى قراءة مفكرين ليبراليين شديدى العداء للماركسية وللأنظمة الشيوعية، لا يرون فيها إلا أيديولوجية مجنونة غير قادرة على قراءة الواقع ولا تحقق أى إنجاز وتتسبب فى ملايين من القتلى دون حدوث أى تقدم إلا للأسوأ. طبعاً لم أفهم أيامها، لا مضمون الماركسية، لا مضمون نقدها، ولكن بعض الجمل الصادمة انخرطت فى ذاكرتى ولم تغادرها قط، منها «لينين لا يعرف أنه يؤمن، هو يؤمن بأنه يعرف». أو «كامو لا يحب الغرب ولكنه يفضله على الشرق الشيوعي، سارتر يفضل الشرق الشيوعى شريطة أن يعيش هو فى الغرب».
أحد أعداء الشيوعية كان خبيراً فى الشئون الروسية، له عمود فى مجلة أسبوعية فرنسية ومؤلفات عديدة عن روسيا، وكان يكرهها كراهية مذهلة، لكنها كراهية تسمح له بالتعمق فى التحليل وبطرح أفكار جديرة بالنقاش، وكنت مستمتعًا بقراءته وكنت أنقل جملاً بالكامل لكى لا أنساها.
وكما كان هناك تدين سطحى عدوانى ألفظه لأنه كان يخفى مشروعاً سلطويا، كنت أرفض بعصبية مصطلح «تقدمي»… كنت أحب أن أتهم الناس بالرجعية لكنى لا أطيق كلمة تقدمى.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية