أعود إلى حواراتى فى باريس ما بين 27 فبراير والخامس من مارس، وتحديدًا مع الدكتور فيليب رينو، وهو من أبرز فلاسفة فرنسا وعالم موسوعى وشخص يجيد فن الحوار إلى جانب قدراته الهائلة على الإيجاز الدقيق.
توقفت عند إشارته إلى تفضيله لتدريس ابن خلدون بدلاً من الفارابى وابن رشد. لا يعنى هذا طبعاً تقييماً سلبياً للفيلسوفين العظيمين، بل يعنى أن مقاربات وقضايا فلاسفة العصور الوسطى – مسيحيين كانوا أم مسلمين أم يهوداً – لم تعد تهم غير المختصين – فهى بعيدة عنا. أشدد على كونه لا يقول إنها لم تعد صالحة لعصرنا أو أن الإنتاج الحديث أهم منها. هو يقول إن أسئلة هذه العصور – وهى فى إجمال أرجو ألا يكون مخلا – التوفيق بين العقل والنقل وبين عمالقة الفلسفة الإغريقية وبين تعاليم الدين ورسائل الوحى لم تعد تهم الشاب الغربى العلمانى الذى يعتقد – وهو غالبا مخطئ- أنها حسمت فى مطلع الحداثة أو بعدها بقليل.
أما ابن خلدون فيعرض لفلسفة ما للتاريخ، وتحليلاً لحركته ومعناه، وتفسيرًا لصعود وأفول الدول، معتمدًا على ثنائية البدو/ الحضريين وعلى مبدأ حاكم هو العصبية، وجمال هذا التحليل فى كونه يبين أن بذور الأفول موجودة أثناء الصعود، لأن رقى المجتمع يحتوى على إضعاف العصبيات، ومن ثم على إضعاف تماسك النظام.
أى أن الفكرة الحاكمة لنظرية ابن خلدون فكرة لا تحتاج إلى ثقافة دينية ولا فلسفية، ويستطيع أى علمانى فهم عمقها وأهميتها لتفسير التاريخ.
وبما أننى مهتم بالشئون الأوروبية فإننى طلبت رأيه فيما يجري، وفى مدركات أصحاب القرار، علما بأن رينو هو الوحيد فى دائرة أصحابى الذى يؤيد الرئيس ماكرون تأييدًا شبه كامل.
أعلم هذا وأتعجب، فصديقى متبنِّ لقضية أوكرانيا، ولا ينتمى إلى أى من المعسكرات المتعاطفة مع روسيا، ولا طبعاً إلى أى من الفرق المعجبة بالرئيس بوتين. وفى الوقت نفسه هو لا يذهب مذهب صديقه العلامة ألان بيزانسون الكاره لروسيا ولنظامها وثقافتها ومقاربتها للأمور، والمفترض لسوء نيتها وكذبها الدائم بداع أو بدون داع.
وماكرون حاول مرارًا التقرب من روسيا ولم ييئس رغم الفشل المتكرر فى الحصول على شيء ملموس من سيد الكرملين.
الفِرق المدافعة عن روسيا أو الساعية إلى التقرب منها أنواع ومدارس، فهناك من لا يثق فى الأمريكيين وفى البريطانيين ويرى أن مصلحة فرنسا (أو أوروبا) فى اتباع سياسة متزنة تلتزم بمسافة واحدة من كل الفاعلين، ويميل هؤلاء ومعهم غيرهم إلى إيجاد تبريرات لسلوك روسيا، أهمها أن الغرب لم يحترم وعوده بعدم ضم دول أوروبا الشرقية إلى الناتو، ويقولون إنه تدخل فى أوكرانيا لا للمحافظة على التوازن الدقيق بين الكاثوليك المنحازين للغرب والأرثوذوكس المفضلين لروسيا، بل لحسم الأمر لصالح فريقه، وهذا التدخل السافر هو الذى دفع روسيا إلى التدخل العنيف، ويقولون أيضًا إن الثقافة الروسية تفضل نظام الرجل القوى على النظام الديمقراطى.
وهناك من يرى أن معاداة روسيا ترميها فى أحضان الصين، وأن الصين وحدها خصم رهيب، فإن ضمت روسيا إلى صفوفها فسيكون الأمر جللاً.
وهناك من يتوجس من الألمان، ومن أسلوب عملهم، سواء فى أوقات السلم أم فى أوقات الحرب، ويرى أن التقارب من روسيا يضمن نوعًا من التوازن، ويمنع أو يعرقل قيام تحالف ألمانى روسى.
وهناك أيضًا فى اليمين واليسار المتطرفين من يرى أن الرجل القوى الرافض للتصورات الليبرالية هو الحل، وهناك فى الأوساط المسيحية المحافظة أو المتزمتة من يرى أن بوتين على عكس الليبراليين الأوروبيين اهتم بمصير مسيحيى الشرق الأوسط. وهناك طبعًا فرق كثيرة تعادى روسيا
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية