كنت فى باريس الأسبوع الماضى وجالست أصدقائى وأساتذتى أستمع وأتعلم وأتابع. لكل منهم مذهبه ومشربه وتوجهاته ولا يجمعهم إلا تشخيصان… أن الديمقراطية التمثيلية فى أزمة، وأن الاتحاد الأوروبى مشروع لا يصلح وقائم على فرضيات خاطئة. بعد ذلك يختلفون حول الأولويات وحول تقييمهم للرئيس ماكرون وحول تنبؤاتهم، ولا يقرأون الكتب نفسها ولا يقدمون التوصيات.
الجلسة مع الصديق العلامة الدكتور فيليب رينو كانت مذهلة… استمر اللقاء ساعة وعشر دقائق احتكر فيها رينو الكلام وكنت طالبا هذا… وفى ثمانين دقيقة تعرض العلامة لأربعين موضوعاً وخصص لكل منهما دقيقتين… جمل قليلة دقيقة طارحة لأسئلة مقترحة ردوداً. شغل رينو مواقع عديدة، منها رئاسة اللجنة التى تمنح إجازة التدريس فى العلوم السياسية، وهو حاليا نائب رئيس اللجنة القومية التى تقوم بمراجعة شاملة لمحتوى المناهج فى كل مراحل الدراسة، ومدير المجلة الفكرية ذات التوجه المحافظ «كومونتير». وهو من القلائل المنحازين للرئيس ماكرون.
تناقشت يوميا مع الدكتور جيل دولانوا الصديق الصدوق أستاذ الفلسفة السياسية المرموق وعضو اللجنة التى تمنح إجازة التدريس فى القانون العام. يختلف جيل عن فيليب، فهو يحصر اهتمامه فى قضايا معينة – الديمقراطية، القرعة كوسيلة للتعيين٫ مفهوم الأمة والوطن والمذاهب القومية، والفرق بين الدولة الأمة وبين المدينة الإغريقية والإمبراطوريات، نظرية النسبية، الفلسفة الصينية، إلا أنه يقتلها بحثا، وعنده قدرة هائلة على التعمق فيها، أقابل جيل كل ٦ أشهر ولديه دائما جديد. ما هو ثابت هو استياء من مستوى الجامعات والجامعيين الفرنسيين، ويلاحظ أن رينو لا يشاركه الرأي، فرينو يرى أن مستوى الجامعيين معقول جدا، والمشكلة فى تنظيم التعليم العالى الذى يخالف كل عقل ومنطق. ما هو ثابت أيضا هو اعتزاز شديد بالثقافة الفرنسية الكلاسيكية وهو اعتزاز لا يمنع معرفة عميقة لشئون العالم. وجدير بالذكر أن جيل كان أصغر الحاصلين على دكتوراه الدولة سنا فى تاريخ فرنسا.
اللقاء الثالث مع أستاذى الدكتور جان لوكا الرئيس الأسبق للجمعية العالمية للعلوم السياسية، عمره يناهز الخامسة والثمانين، من مواليد الجزائر وناضل من أجل استقلالها، لم ينطلق من خلفية ماركسية، بل من معتقدات كاثوليكية. على عكس أول اثنين، خلفيته الأصلية القانون العام وحصل على إجازة تدريسه وهو فى الخامسة والعشرين من عمره. كان اللقاء حزينا بالنسبة لي، لأول مرة أتساءل هل هذا آخر لقاء… حالته الجسدية تتدهور بسرعة، لكن الذهن حاضر، والذكاء المتوقد لم يفقد بريقه.
لوكا كان عالما موسوعيا… طريقة عمله كالآتي… يطلع على المجلات والنشرات المتخصصة، إن أثار موضوع اهتمامه يتبحر فيه ويقرأ قائمة المراجع التى تم ذكرها فى الهوامش، قراءة ثاقبة متعمقة، رغم سرعتها الفائقة. وفى العقد الأخير خصص أغلب وقته لمراجعة الأدبيات التى تتناول الاتحاد الأوروبى ومشروع الوحدة، خصص لها مقالات لم ينشر أغلبها. قرر ألا يترك جزئية دون تحليل فجاءت المقالات طويلة… وكان يأمل فيما يبدو فى إقناع جمهور المتخصصين إن المشروع لا يستطيع أن ينجح، لأنه لا يخلق مواطنة أوروبية ولا مواطنين أوروبيين ولا يستطيع، بل يراهن على خلق تجمع نصف مليار من «المستهلكين»، أى يراهن على أن تكون قوة سكانه الشرائية مصدرا للقوة كافيا يسمح بلعب دور بارز على الساحة الدولية… وهذا الرهان يفترض صحة فرضية فوكوياما عن «نهاية التاريخ»…لكن فوكوياما نفسه اعترف بخطئه.
أبدأ برينو، قال لى إن واضعى البرامج يسعون فيما يسعون إلى تقديم صورة مشرقة للعطاء العربى للحضارة، فيركزون على الفارابى وعلى ابن رشد، ويرى رينو أن تحقيق الهدف كان يقتضى ترك هؤلاء والتركيز على ابن خلدون.
يتبع
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية