عن بعض السجالات السياسية فى الجماعة الثقافية المصرية
عاهدت نفسى ألا أخوض فى السجالات السياسية فى الجماعة الثقافية المصرية، لأن مجال بحثى الرئيسى فى العقد الأخير هو الشؤون الأوروبية، ولأننى لا أريد أن أكون عبئا على أحد، ولأننى مدين لبعض المثقفين والجامعيين بالكثير، مما قد يوثر على حكمى على الأمور وعلى رغبتى فى الكلام.
بين حين والآخر يثور خلاف حول مكونات الهوية المصرية، وحول ما يترتب عليها من “التزامات”، وأقرأ كلامًا عجبًا.
بدون تسجيل مواقف أو توزيع الإشادة والاتهامات أودّ أن أسجل بعض النقاط لعلها توضح موقفي.
من ناحية هناك “هوية مصرية”، تتمتع بقدر ما من الثبات وتشهد تحولات، يشارك فى تشكيلها وفى الاحتفاظ بها وفى تطويرها عدة فاعلين، الدولة تؤثر فيها بمحتوى مناهج التعليم، وبخطابها الإعلامي، وبقوانينها وبأساليب عملها وأدواته، والمؤسسات والجماعات الدينية والجماعة الثقافية والجمعيات لها دور مهم، ويبقى أن الذاكرة الجمعية ومعتقدات الجماهير لها الدور الأهم… والأهم بكثير.
ويلاحظ أن العلاقات مع “الخارج” – دول الجوار وغيرها – تلعب دورا فى تشكيل الهوية. قد تؤدى إلى التركيز على المشترك وقد تسهم فى تحديد أوجه الاختلاف، والعكس صحيح، مدركاتنا عن أنفسنا وعن هويتنا وعن هوية غيرنا تلعب دورا فى تشكيل علاقاتنا الخارجية. ويلاحظ أن خطاب الآخر يؤثر على هويتنا – والعكس أيضا صحيح.
التفاعل بين أفعال الفاعلين ومعطيات الواقع – أى الذاكرة الجمعية ومعتقدات ومدركات الجماهير- يستحق أبحاثا طويلة. هنا أكتفى بقول ما يلي… لا يمكن إنكار أهمية دور الفاعلين، ولا يمكن القول إنه ينحصر فى رصد الواقع، فهم قادرون على تغييره، وعلى زيادة أهمية مكون من مكونات الهوية على حساب غيره، وعلى إحياء مكونات مدفونة (المكون الإفريقى مثلا)، ولكن قدرتهم هذه غير مطلقة، وهى غير مطلقة حتى لو كانوا مجمعين على خطاب واحد. فالجمهور المتلقى ليس سلبيا، بل يتفاعل مع ما يتلقاه بالقبول والرفض والتجاهل والتطوير والتحريف إلخ.
من الطبيعى أن هوية أى شعب تؤثر على تفضيلاته وعلى سلوكه تأثيرا تختلف قوته مع اختلاف الظروف، ولكن السمة الغالبة فى أغلب الخطابات المتفاعلة والمتصارعة على الساحة المصرية هى ميلها إلى القول إن الهوية لها الكلمة العليا وربما الوحيدة، وأنها تستحوذ لوحدها على حق منح أو حجب صكوك الشرعية لسلوك ما – فردى أو جماعي، سياسى أو اقتصادي، ثقافى أو رياضي، إلخ، وفى الوقت نفسه هناك ميل – يقوى تارة ويضعف تارة- إلى اعتبار هذه الهوية الجبارة مهددة، تتعرض لهجوم أتى من الداخل ومن الخارج، أتفه فعل تهديد لها، أو على الأقل إهانة لقدسيتها.
ويترتب على هذا التصور للعلاقة بين الهوية والسلوك القويم كم من الصراعات الفكرية حول صياغة محتوى الهوية وتحديد مضمونها، وحول شرعية من يخوض فى الموضوع، وفى تعبير آخر يتصرف أغلب الكتاب بمنطق إن أردت تعميم سلوك أو الدعوة إلى موقف سياسى ما تكلم عن الهوية وحدد مضمونها بأسلوب يجعل ما تدعو إليه فرضا واجبا ومقدسا، وأى سلوك آخر من الكبائر.
شخصيا أرى أن مصر دولة عربية وإسلامية وإفريقية ومتوسطية ولماضيها الفرعونى ولأقلياتها غير المسلمة دور ما. من ينكر أيًا من هذه الأبعاد يهرج، أنا مقتنع بأن المشترك بين الشعوب العربية كثير ومهم ولا يمكن حصره بدقة ولا اختزاله فى شعار أو رأس موضوع، ولكنه يبقى أنه لا يوجد شعب عربى واحد بل شعوب عربية، وطوائف وقبائل عربية وتتكلم العربية، ويبقى أن الشعوب العربية لا تعيش فى المرحلة التاريخية نفسها، المثال الأوضح هو كون الشعب الفلسطينى يعيش فى مرحلة تحرر وطني، وهى مرحلة لها تحدياتها وأحكامها ومتطلباتها، فى حين أن الشعوب العربية الأخرى أنجزت هذا التحرر الوطنى وتعيش فى مراحل أخرى تختلف من شعب لآخر، مراحل لكل منها متطلباتها وتحدياتها وأدواتها.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية