جولة فى الأرشيف الأمريكى
يوم 2 يناير 1973 كتب عضو فى فريق مجلس الأمن القومى الأمريكى إلى مستشار الرئيس نيكسون للأمن القومى الدكتور هنرى كيسنجر، ولخص تقريرا مستفيضا لمدير المخابرات المركزية هيلمز يعرض لتفاصيل مباحثات بين الرئيس المصرى أنور السادات ومبعوث جلالة ملك الأردن الحسين بن طلال، السيد زين الرفاعي.
حمل الرفاعى مقترحا من جلالة الملك مفاده استئناف العلاقات الدبلوماسية بين البلدين والعمل المشترك للضغط السياسى والدبلوماسى على إسرائيل للتوصل إلى حل. وقال إن العرب لا يستطيعون المجازفة وشن حرب جديدة ضد إسرائيل، لا سيما فى ضوء سياسات الوفاق التى قللت من التوتر بين الاتحاد السوفيتى والولايات المتحدة، والتى ستحث موسكو على عدم القيام بأفعال تعرّض الطور الجديد للعلاقات مع واشنطن للخطر. وقال الرفاعى إن الولايات المتحدة هى القوة الوحيدة التى تستطيع إجبار إسرائيل على الانسحاب من الأراضى المحتلة، وإن الملك الحسين حاول فى آخر زيارة له لواشنطن فى مارس 1972 نقل الملف وإدارته من وزارة الخارجية الأمريكية إلى الرئاسة.
من ناحيته، قال السادات إنه لم يلتق أى ممثل للرئيس نيكسون، ولكنه تلقى بعض الرسائل من الرئيس الأمريكى ورد عليها، وأضاف أنه يعتقد أن السوفيت يستطيعون لعب دور فى حل مشكلة الشرق الأوسط، وإن كان ثانويا وأقل أهمية من الدور الأمريكي. والأهم من هذا قال السادات إنه مقتنع تماما أن السبيل الوحيد لإجبار إسرائيل على إعادة الأراضى المحتلة إلى أصحابها هو شن حرب استنزاف، وأضاف أنه حسب كلفتها بدقة وأنه يعتقد أن مصر قادرة على تحملها، واستطرد السادات وقال إنه يجب قصف الداخل الإسرائيلى بقوة وقتل أعداد كبيرة من المدنيين بانتظام، لتقتنع إسرائيل بضرورة الحل. واختتم الرئيس السادات قائلا إن على الأردن تجنب الانخراط فى حرب الاستنزاف المصرية لأن إسرائيل ستغزو أراضى المملكة وتدمر جيشها.
وتقول وثيقة أخرى إن الملك الحسين وصف تصورات السادات حول حرب استنزاف بـ”المجنونة” لأن إسرائيل سترد بهجوم ضخم سيكبد المصريين خسائر جسيمة فى الأرواح والعتاد. أى أنها لن تقبل الانخراط فى حرب طويلة الأمد وستغير قواعد الاشتباك.
هذا ما قاله السادات للأردنيين فى نهايات 1972، السؤال هل هذا يساعدنا على معرفة ما كان يدور فى ذهنه؟ نعرف أنه كان يجيد إخفاء أوراقه واللعب بها فى الوقت المناسب. بالتالى يمكن الافتراض أنه قال لمبعوث الملك نصف الحقيقة.
على ضوء ما نعرفه الآن، يبدو واضحا أن السادات وصل لقناعة مفادها أن مفاتيح الحل فى يد الولايات المتحدة، ولكنه فى الوقت نفسه رأى أيامها أن الحديث عن استبعاد الاتحاد السوفيتى سابق لأوانه، ونعرف كلنا أن السادات اقتنع فى خريف 1972 باستحالة الحل الدبلوماسى فى ظل الأوضاع السائدة وأن العمل العسكرى بات السبيل الوحيد، ويبقى السؤال لماذا فاتح الأردنيين؟
هناك تفسيران… الغالب هو أن السادات قدّر أنه لن يستطيع إخفاء استعداد مصر للحرب، فقرر إرسال رسالة حمّالة أوجه، مفادها: إن أغلقت إسرائيل والولايات المتحدة باب الحل الدبلوماسى فلم يعد بدٌ مما ليس منه بد، وهذا الشق من الرسالة تحذير واستنجاد فى آن واحد، “افتحوا باب الحل الدبلوماسى وإلا…”. وفى الوقت نفسه يوحى السادات لمحاوره بأن تصوراته عن الحرب مجنونة غير واقعية مما يبعث الأعداء على طمأنينة زائفة.
وهناك تفسير آخر… أيامها كانت ذكرى حرب الاستنزاف وتكلفتها لإسرائيل ولمصر فى كل الأذهان، ورأى السادات أن التلويح ببداية جولة جديدة لهذه الحرب تنطوى على تصعيد كبير – ضرب الداخل الإسرائيلى والمدنيين- تهديد سيؤخذ مأخذ الجد. كلنا نعرف أن المصريين فى أكتوبر 73 نفذوا تكتيكا سمح بتدمير حائط بارليف، والسؤال هو… هل كان “حل مشكلة خط بارليف” الذى نفذ فى أكتوبر معروفا فى أواخر 72؟ الرد على هذا السؤال قد يعين على فهم حسابات السادات.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية