إعادة بناء” – استخدام هذا التعبير يعنى أن الوضع الحالى غير مُرضٍ. إعادة بناء “الإنسان المصري” تعنى أن الخلل جماعى. ويبدو أن الدولة تريد اضطلاع المؤسسات التعليمية والدينية والإعلامية بدور كبير فى عملية الإصلاح.
هل سيُطلب من كل مؤسسة الاضطلاع بجزء من المهمة، والتركيز على جانب من جوانب المشكلة البالغة التعقيد؟ أم سيُطلب منها كلها توجيه الرسالة نفسها وتنمية المهارات نفسها ومعالجة العيوب نفسها؟ شخصيا أُفضل الخيار الأول.
هل عملية إعادة البناء تركز على تنمية وتطوير الخصال الحميدة للشعب المصرى وهى كثيرة؟ أم ستسعى إلى التخلص من بعض العيوب الجماعية؟ كيف ستوفق بين قدر من التأطير وتقوية الشخصية الفردية لكل أبنائنا؟
أيّا كان الأمر، هدف إعادة البناء يجب أن يكون تهذيب النفوس والحث على تحضر السلوك العام والخاص إلى جانب اكتساب المعارف ومهارات المنهج العلمى والتفكير النقدى. الحضارة مفهوم له نقيضان… الهمجية من ناحية وذوبان الخصوصية القومية من ناحية أخرى. والتهديد الرئيس ليس ذوبان الخصوصية القومية بل الانزلاق إلى الهمجية. وهو تهديد لا ننتبه إلى خطره بما فيه الكفاية.
علينا أن نتعلم كيف نعامل بعضنا البعض، داخل الأسرة وفى المجال العام. وهذا يقتضى اكتساب عدة عادات – احترام النظام، التأدب، ضبط النفس ولجم عنفها، احترام خصوصيات الآخرين ومجالهم الخاص، الحرص على نظافة المجال العام. لا يتماسك المجتمع ولا يتقدم إن سادت شريعة الغابة والبلطجة وعمت قلة الأدب. كل هذا يؤدى إلى عدم الإحساس بالأمن. وقوام العقد الاجتماعى هو التزام الكل باحترام القوانين مقابل الأمن للجميع. إن ضعف أحد طرفى المعادلة تراجع الآخر. قد لا تخالف قلة الأدب فى حد ذاتها القوانين ولكنها تؤثر سلبا على الأمن وبالتالى على الالتزام باحترام القوانين.
أشير هنا إلى أهمية الأدب والفلسفة والتاريخ وعلم النفس، ضبط العنف وتعلم حسن التصرف يتطلبان اكتساب مهارات الحوار واستخدام الحجج والتعبير عن النفس والقدرة على فهم الآخرين. لن يختفى العنف ولكن اللجوء إليه سيكون أقل.
من ناحية أخرى، أتصور ضرورة قيام علماء الاجتماع والنفس وخبراء التربية بدراسات لفهم مواقف المصريين من مفهوم النظام، الكل يطالب به ويشكو من الفوضى – ولا أحد يلتزم به. فى ذهنى عدة تفسيرات ممكنة، ولكننى أُفضل الاطلاع على رأى من هو أعلم منى. علينا فهم الظاهرة لتصور كيفية التصدى لها.
أود أن ألفت النظر إلى بعض الأمور، منها مثلا أن أسلوب وشكل عمليات نقل المعارف وزرع القيم مهمان. بعض المدارس الغربية تقول إن أفضل وسائل نقل المعرفة هى الوسائل التى لا ترهق الطفل، وتجعله ينظر إلى العملية على أنها “تسلية” أو “لعبة” خفيفة الدم. ولست متحمسا لهذا المنهج. عانيت وأنا صغير فى فهم الشعر الجاهلى مثلا، ولكنه عناء وتعب سمحا باكتشاف كنوز وثروات. طبعا ما يجب تجنبه هو إرهاق الطفل والمراهق فى حفظ توافه الأمور وميل البعض إلى استخدام العنف مع الأطفال والمراهقين. أعرف أن ظروف عمل القائمين على التربية صعبة وأن الفصول مزدحمة وأن الدخل المحدود يدفع إلى الجمع بين عدة مهن، ولكننى أتصور أن هناك أساليب لفرض الهيبة لا تلجأ إلى الضرب.
أمر آخر هو ضرورة الانتباه إلى كون أى تقدم فى مجال يصاحبه تراجع فى مجال آخر. قد يكون التقدم الذى نحققه أهم بكثير من التراجع الذى نعانى منه، وقد يكون العكس صحيحا. التشديد على احترام الأكبر سنا أو الأوفر علما قد يقتل التفكير النقدى. التركيز على ضرورة الانضباط والطاعة قد يوثر سلبا على روح المبادرة. إلخ..
وفى أمور عدة يحب تحقيق توازن، ننمى الروح الوطنية مع التحذير من الفكر العنصرى أو المقاربة المتعالية، التفاخر بحضارتنا لا يحتاج إلى التقليل من شأن غيرها أو تجاهلها.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية