أخطاء القادة ومصائر الأمم والقارات
تحت تأثير الماركسية ركزت الدراسات التاريخية لفترة طويلة على تطور المجتمعات وأنظمة إنتاجها والعلاقات بين الطبقات، وعلى آليات عمل الدولة، وعلى دور العوامل والتحولات الثقافية فى العقل الجمعي، وعندما كانت تهتم بدور القائد، كانت تُفضل التركيز على العوامل التى تحدد سلوكه وتُقيّده دون أن تكون له القدرة على التحكم فيها. وفى العقود الأخيرة عاد الاهتمام بشخصيات القادة وتأثيرهم على المسارات التاريخية.
أتأمل المسار الأوروبي. من الواضح أن القارة دخلت مرحلة الأفول؛ هل هذا الأفول سيكون بطيئًا أم سريعًا، هل هو تمهيد لانطلاقة جديدة بعد مخاض قصير أو طويل، أم هل هو خروج طويل من التاريخ… كفاءة القادة ستلعب دورًا.
لماذا أتكلم عن أفول؟ من ناحية، معدلات الإنجاب مذهلة فى ضعفها، قدرة اقتصاد أوروبا على المنافسة فى تراجع مستمر، أوروبا غائبة عن عدة ساحات بالغة الأهمية، لا تملك مصادر رخيصة للطاقة، ما زالت تملك كوادر وقواعد قادرة على الابتكار، ولكنها فقدت القدرة على تحويل هذا الابتكار إلى مشروعات اقتصادية مُربحة، الأزمات الاجتماعية والمالية والاقتصادية تتوالى، والاستقطاب الداخلى يتعمق ويتجذر، ثلاث مجموعات تتصارع، الفئات التى تستفيد من العولمة، الفئات التى تتصور – غالبًا لأسبابٍ وجيهة – أن العولمة أضرَّت بها، وأبناء المهاجرين. وأخيرًا وليس آخرًا، تأخرت أوروبا جدًّا فى التعامل الجاد مع شئون الدفاع والتحديات الجيوسياسية.
قرأت فى موقع فكريّ مقالًا لأستاذ اقتصاد كبير يرى أن هناك إجماعًا أكاديميًّا – يقصد إجماع أصحاب تخصصه – على ما يجب عمله لتعديل مسار القارة لتعود فاعلًا يُعتدّ به، ولا يتسع المجال للتفاصيل، لكن الروشتة هى – فى خطوطها العريضة – مزيد من التقدم فى طريق الوحدة الأوروبية والسوق المشتركة (حتى فى المجالات الإستراتيجية) والدفاع المشترك وحرية التنقل فى القارة… إلخ.
المشكلة الرئيسة فى هذه الروشتة أنها مرفوضة من قطاعات شعبية واسعة، ومن قطاعات يُعتدّ بها من النخب، على سبيل المثال لا الحصر… هل تقبل الدول الرشيدة ماليًّا تحمُّل ديون الدول المبذِّرة؟ هل تقبل الدول التى تملك جيوشًا زيادة أعبائها الدفاعية لتأمين الدول التى قصَّرت فى هذا المجال؟ هل تستطيع الدول توحيد سياساتها المالية والضريبية؟ هل تقبل الدول تقسيم العمل بينها على أساس المزايا النسبية؟
إضافة إلى هذا، تفترض هذه الروشتة أن الإصلاح الاقتصادى – إنْ نجح طبعًا – سيصلح كل الأمور ويسهم فى تهدئة التوترات الاجتماعية، ويحلّ مشكلات البنية السكانية، ويقوّى النسيج الوطني، ويسمح بالتعامل مع التحديات البيئية، وببناء جيوش قوية، وبالنهوض بمنظومات التعليم… إلخ.
أوروبا تمتلك عددًا من الأوراق والمزايا، منها المستوى الثقافى والعلمى الرفيع لطبقاتها الوسطى، ومنها خبراتها المتراكمة فى عدد من المجالات وإمكانياتها المالية، ورغم هذا أظلُّ متشائمًا.
ما هو مذهل هو ضعف أداء القيادات السياسية، وسأكتفى هنا بالإشارة إلى رئيسين… الروسى والفرنسي، فهما نموذجان لقائدين ارتكبا أخطاء جسيمة ستكون لها تبِعات ضخمة، وهى أخطاء لم تكن «إجبارية» ولا يمكن تبريرها بضغط الأحداث.
عندما تتأمل موارد روسيا وثرواتها ومهارات طبقاتها الوسطى، وأهمية روسيا المركزية فى عدة مجالات – الغاز والبترول والطاقة النووية والسلاح والسلع الغذائية، وعندما تفكر فى التحديات التى تواجهها – ضعف معدلات الإنجاب وتناقص عدد سكانها وصعوبة السيطرة على أراضيها الشرقية، وعندما تدرك مدى حاجة أوروبا إليها، تتساءل: لماذا لم تتبع سياسة حياد إيجابى تحثُّ الجميع على خَطْب ودّها، ولماذا لم تخصص جهودها وطاقاتها لتطوير اقتصادها؟ حصاد حربها على أوكرانيا – حتى لو انتصرت فيها نصرًا مبينًا – كارثي. مئات الآلاف من القتلى، هروب كبير للعقول، أضرار جسيمة للبنية التحتية، تبعية تزداد يوميًّا للصين، إضعاف بالغ لشريكها الطبيعي؛ ألمانيا.
الرئيس الفرنسى أدخل بلاده فى أزمة سياسية كبيرة بقراره المتهور بحل مجلس الأمة، فى توقيت سيئ جدًّا، وهذه الأزمة قد تؤثر على مُقدَّرات القارة.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية