خواطر وقراءات
ألقى نظرة عدم مرات فى اليوم إلى الحوارات على مواقع التواصل الاجتماعي، لأعرف أخبار الزملاء والأصدقاء، ورأيهم فى بعض القضايا المطروحة، وماهية القضايا التى تثير اهتمام الرأى العام. وأحاول أن أدقق – هل الخبر الذى يثير زوبعة محقق أم لا؟ وهل الكلام المنسوب لأحد ما محرف أم مذكور خارج سياقه؟… إلخ، وطبعا يخوننى التوفيق فى أحوال كثيرة.
القضية التى كثر الحديث فيها العشرة أيام الماضية خاصة بالتعليم، وتعليم ما نسميه “المواد الأدبية”، وهى فى الواقع اللغات والتاريخ والجغرافيا والأدب والفلسفة. واحترت.
وأمضيت بعض الوقت أحاول تحديد تأثير قراءاتى على شخصي. ماهيته، تقييمه، وكان هذا سهلًا نسبيًا، والأصعب كان تذكر “تاريخ” هذا التأثير. من السهل أن أقول تعلمت كيت وكيت، ولكننى لا أستطيع أن أتذكر تاريخ هذا التأثير، هل كان مباشرا أم غير مباشر؟ تدريجيا أم سريعا؟ هل كان عاملا رئيسا أم ثانويا فى تشكيل وعيي؟ هل دعم توجهات قديمة متجذرة منذ الصبا أم تسبب فى وجودها؟ ما تأثير القراءات المفروضة وتأثير القراءات الاختيارية؟ وأخيرا وليس آخرا هل لعبت البيئة المحيطة دورا فى تحفيزى على القراءة؟
نبدأ بالنقطة الأخيرة – فى حالتى الشخصية كانت مشاهدة التلفزيون ممنوعة فى البيت، ولعب هذا دورا، ولكن تبعات هذا المنع كانت كثيرة وليست كلها إيجابية، التلفزيون مصدر أخبار ومعلومات الكثيرين وكان محتوى البرامج إيامها يتصدر الأحاديث، والمسرحيات والمسلسلات المذاعة كانت تؤثر بقوة على اللغة العامية، ونتيجة المنع المنزلى كانت واضحة… كنت مثل الأطرش فى الزفة فى وسط زملائي. وفى المقابل كنت أكثرهم معرفة وأُطلق عليّ لقب القاموس.
فى بعض الأوساط التباهى بالقراءات هو السنة، فى مجالس وصالونات الطبقات الوسطى الباريسية الحديث عن الكتب والكتاب بذكاء وخفة دم من وسائل المعاكسة وتقديم النفس. فى أوساط أخرى هذا الحديث منفر، أحد مساوئ الفكر السائد فى باريس الآن ميله إلى اعتبار الثقافة أداةً تُعين الطبقات الميسورة على تهميش العوام وذريعة لقصر بعض المناصب على “أبناء العائلات”، ونتيجة لهذا الفكر التافه لم يعد هناك اختبارات ثقافة عامة فى عدد كبير من امتحانات القبول. ولذلك نجد أعدادًا تتزايد من الكوادر يجمعون بين التفوق فى تخصصهم والغباء المطبق فى غيره. وشئنا أم أبينا هذا الوضع يؤثر على الأداء. القراءة والثقافة وبعض الأفلام الوثائقية أسلحة تفيد الفرد والقادة والكوادر والمجتمع.
والطلب على الكتب ليس كافيا، العرض يجب أن يكون معقول المستوى يخاطب أكبر عدد ممكن من الأذواق. فى فرنسا ومصر هناك مشكلة وإن اختلفت درجة جسامتها هنا وهناك، أكثر الفئات إقبالا على القراءة فئات يجيد أعداد معتبرة من أبنائها لغات أجنبية، ويؤثر هذا بالسلب على حركة الترجمة، من يجيد لغات أجنبية لن ينتظر ظهور ترجمة بلغة بلده ليُقبل على الكتاب، النص الأصلى دائما أضمن أيًّا كانت مهارات المترجم.
أعود لشخصى المتواضع المؤكد أن مكتبة الوالدين كانت كبيرة، بالغة الثراء، والمؤكد أننى لم أستفد منها فى السنوات الأولى من عمري، وأن هناك من قام بإرشادى – الوالدة، مدرس اللغة الفرنسية، مدرس اللغة العربية، أب يسوعى كان يتقدم بنصائح قد تكون إلزامية فى بعض الأحوال، والطريف أن كل التوصيات حثت على شراء كتب أو استعارتها من مكتبات.
ولم ألتزم دائما بالنصائح والتوصيات. إما لأن الصفحات الأولى من الكتاب المقترح لم تعجبني، وإما لأنى لم أفهمها، وأحيانا لعبت الحاجة إلى التمرد دورا فى هذا الرفض.
وأتذكر رواية أدبية أبكتنى بكاءً مرًّا، لأن أخا البطل يموت، وأصيبت العائلة بالذهول، واليوم أتعجب من رد فعلى آنذاك. وبصفة عامة يمكن القول إن عددا كبيرا من الجمل الحكيمة ومن الملاحظات الذكية بقى فى حفريات الذاكرة وأثّر تأثيرا كبيرا على سلوكى وخياراتي، إلى يومنا هذا.
يتبع
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية