ملاحظات حول الهجوم المضاد الأوكراني
الخيط الذى يفصل بين العبقرية والجنون خيط رفيع. ولا نعرف إلى الآن إن كان التوغل الأوكرانى فى الأراضى الروسية، وهو هجوم استغلّ ثغرة كبيرة نسبيًّا، «ضربة معلم» أم خطأ جسيمًا.
نظريًّا، ليس من مصلحة أوكرانيا توسيع الجبهة، فهى تعانى نقصًا فى الأفراد والعتاد، وأداء حلفائها فيما يتعلق بدعمها متوسط ومرشح لمزيد من التدهور، ولا سيما إن فاز المرشح الجمهورى بالانتخابات الرئاسية الأمريكية.
هو أداء سيئ لأنه شديد البطء فيما يخص الإمداد بالسلاح، ولأن الغرب يضع قيودًا على استخدام هذا السلاح، ويعلن عنها؛ أى أنه يجبر الملاكم الأضعف أصلًا على خوض المعركة بذراع واحدة. والسلاح المقدَّم لأوكرانيا ليس الأحدث إلا فيما ندر.
يمكن تفهُّم الحيطة الغربية التى تبلغ أحيانًا حد التخاذل، الوضع المالى والاقتصادى والسكانى الغربى ليس على ما يُرام، روسيا دولة نووية عظمى، ولم يظهر منها أى دليل على رغبة فى احترام الاعتبارات القانونية والأخلاقية، وتاريخيًّا أدت الهزائم العسكرية الكبرى لروسيا – وهى كثيرة على عكس ما يدّعيه النظام الروسى – إلى انهيار الدولة وتفككها.
تأملوا آثار انهيار ليبيا على الشرق الأوسط والمغرب العربى، وعلى الساحل والصحراء، وعلى أوروبا. وليبيا – مع الاحترام والمودة لشعبها – عدد سكانها محدود، ولا أسلحة نووية لديها. وتخيل تبِعات انهيار روسيا إن انهارت الدولة، سيتسبب هذا فى مجموعة ضخمة من الأزمات فى شرق أوروبا والقوقاز ووسط آسيا وشرقها، وان استفاد طرف من هذا فسيكون هذا الطرف إما الصين المنافس الرئيس للغرب… أو التنظيمات الإرهابية المتطرفة.
باختصار، وأيًّا كانت نياته وتمنياته، فإن تصرفات الغرب توحى بأن هدفه الرئيس ليس هزيمة كبرى لروسيا، بل استنزافها وإجبارها على دفع ثمن كبير لتوسعها ومنعها من تحقيق انتصار كامل.
إلى جانب هذا، تميَّز الأداء الإستراتيجى الغربى بعد انهيار الشيوعية بالغباء الشديد، أُلخّص مظاهره فى جمل قليلة، توسيع الجبهات، وفتح الجديد منها مع تقليل الإنفاق العسكرى، والتصور أنه يملك وحده دون غيره تحديد قواعد الاشتباك، ودرجة حرارة الصراع وحِدّته.
ولكى نكون منصفين، نقول إنه لا أحد فى الدنيا؛ لا فى شرقها ولا غربها، توقَّع صمود أوكرانيا البطولى، ولا سيما بعد أدائها السيئ سنة 2014. واكتشف الجميع أن النسيج الوطنى الأوكرانى قوى، مقارنة بحاله فى بداية الألفية.
أعود إلى التوغل الأوكرانى الأخير، لأشير إلى بضع نقاط. بسبب أو بفضل الحوار الدائر فى جماعات السياسة الخارجية الغربية، كنا مدركين حجم وجسامة الصعوبات التى تواجهها أوكرانيا، لكن يبدو أننا لم نكن على علم بجسامة المشكلات الروسية. نعم حققت روسيا تقدمًا ملحوظًا فى أوكرانيا منذ سبتمبر الماضى، ونعم كنا نعلم أن الخسائر فى الأرواح الروسية كانت كبيرة، لكن يبدو أن حجمها أثّر على حجم الاحتياط الروسى وجاهزيته. السؤال الآن… هل تستطيع روسيا التصدى للتوغل الأوكرانى وردّه على أعقابه دون إعلان تعبئة عامة أو دون إعلان الأحكام العرفية؟ سنرى.
وكنا نعلم نقاط قوة ومواطن ضعف الهيكل التنظيمى للجيش الروسى، وللدولة الروسية، ويبدو أن الهجوم الأوكرانى يحاول أن يستغل بعض هذه العيوب… بطء ردود الفعل العائد إلى تعدد الأجهزة وهرمية كل جهاز على حدة.
وكنا نعلم أن اهتمامات الغرب مشتتة… بين الوضع فى المحيطين الهندى والهادى وشرق أوروبا والشرق الأوسط والبحر الأحمر، لكن تعدد الجبهات له أيضًا أثر على إيران، التى تمد روسيا بأسلحة وطائرات مُسيّرة وذخائر. إيران فى أمسّ الحاجة إلى دفاع جوى. هل روسيا تستطيع مدَّها حاليًّا بمنظومات تفى بهذا الغرض؟ ولا سيما بعد اتضاح أنها غير قادرة على حماية مجالها الجوى بالكامل؟
وبصفة عامة… هل لروسيا مصلحة فى نشوب حرب إقليمية بالشرق الأوسط؟ الحرب ستقلل الدعم لأوكرانيا، لكنها ستضعف إيران، وقد تُعرّض علاقات روسيا والخليج لتدهور.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية