بين التشاؤم والتفاؤل والإيجابية والسلبية (1)
سنة 2009 تناولت الغذاء مع سفير دولة أوروبية فى القاهرة، وقال… سفارتنا فى القاهرة كانت أول مكان أخدم فيه كملحق، وكان ذلك سنة 1976، وعدت إليها الآن سفيرًا. والصراحة… لو كان خبير قال أيامها إن مصر سنة 2010 ستكون بهذا الشكل الذى هى عليه الآن (سنة 2009) لشتمته وسخِرت منه. تنسون، يا معشر المصريين، ما حققتم.
انتهى كلامه.
سنة 1976… كان كل الأهالى يواجهون مشكلات فى التموين، المعدات الكهربائية فى حالة يُرثى لها، شبكة التليفونات مُنهارة فى عموم القاهرة، وغالبًا فى القُطر كله، الوالد كان صديقًا لنائب رئيس وزراء قال له… أستطيع أن أخدمك فى عشرات الأمور… ولكن توفير خط تليفونى يعمل أمر مستحيل.
وسط البلد غارقة فى مياه المجارى. انقطاع الكهرباء والماء هو الأصل. شبكة النقل العام كارثية، ركوب الأوتوبيس – قصدى تسلقه واقتحامه – مغامرة أو معركة نخوضها يوميًّا دون سرور.
وأتذكر رسمًا كاريكاتوريًّا – إما لصلاح جاهين أو لمصطفى حسين – تصف حال التليفزيون… الفنان رسم جهازًا تليفزيونيًّا تظهر على شاشته مذيعة تقول… نأسف لعرض فقرة ونواصل انقطاع الإرسال؛ فى إشارة إلى المشكلتين… برامج تافهة وإرسال متقطع.
وأتذكر رسمًا آخر… شخص يدفع فاتورة كهرباء قائلًا للمحصل… الحمد لله أنكم تحاسبوننا على فترات توافر الكهرباء… الحمد لله لم يخطر على بال أحد محاسبتنا على فترات انقطاعها… (بمعنى… هى أطول بكثير)… ورسمًا ثالثًا… الرسم أسود قاتم وهناك كلام مكتوب… “ولعى الشمعة يا تفيدة لأتمكن من قراءة فاتورة الكهرباء”…
وفى الوقت نفسه كنا نشاهد المد الجارف للتنظيمات الإسلامية الرافضة للنظام، والمكفِّرة – صراحةً أو ضمنًا – المجتمع، نراها تقدم خدمات اجتماعية، ونراها تلجأ إلى العنف البالغ، وكنا نرى ما يبدو كأنه رعب الدولة منها، وكنا نحس بموجة غلاء غير مسبوقة أيامها، وبعمق الفجوة بين الطبقات. وكان أغلب الجامعيين مصريين وأجانب يقولون إن سياسات النظام الاقتصادية والاجتماعية خاطئة لا يمكن بناء أى شيء عليها، وبدأنا نشاهد مهازل فى المنظومة التعليمية، وكنت أسمع فى المناسبات الاجتماعية من يطيل فى وصف وقائع الفساد ويقول… أذكرها تحديدًا وأتذكر صاحب الكلام… لن يرضى الله سبحانه وتعالى عن بلاد شاهدت هذا الكم من السرقات…
وبعدها بسنة ذهب الرئيس السادات إلى القدس… فى مبادرة باركها الكثيرون… من عامة الشعب… بنوع من السذاجة… سيعود اليهود المصريون، ومعهم المال الوفير.. وسيدعمنا الأمريكيون… والكثيرون من أبناء جيلى تنفّس الصعداء… كنا عالمين بحجم التضحيات التى تحمّلها جيل أكبر منا بعشر سنوات والتحق بالجيش قبل النكسة بقليل أو فى أعقابها ولم يخرج إلا سنة 74… نعلمها لأن الكثيرين منهم التحق بوظائف إدارية فى المدرسة أو فى الأندية أو فى هيئات نتعامل معها… ويتكلمون بأسى عن أصدقائهم… مَن استُشهد ومَن فقَدَ ساقين.. وعن الرعب الذى سببته بعض أنواع القنابل فى صفوفهم… وعن بطولاتهم… إلخ…
وفى الوقت نفسه غضب عدد مُعتبر، واعتبر هذه المبادرة خيانة، وازداد عدد الرافضين مع تعثر المفاوضات فى أول الأمر، ثم مع توقيع اتفاقية كامب ديفيد… ومع توقيع معاهدة السلام… ومع مشاهدة عَلم إسرائيل يرفرف على مبنى سفارتها فى القاهرة قبل أن تنسحب إسرائيل من سيناء انسحابًا كاملًا…
أتذكر وجه القائد الراحل السادات، يوم توقيع اتفاقية كامب ديفيد… لم يكن سعيدًا، كان وجهه وجه مَن يعلم أنه حكم على نفسه بالموت… طبعًا لم أكن غائصًا فى أعماق ذهنه، ولكننى تخيلته يقول فى نفسه… نعم ارتكبت إحدى الكبائر… وأعلم ذلك، ولكننى ارتكبتها دفاعًا عن بلدى، وأدفع الثمن لنستردَّ الأرض، ودمى فداء لمصر.
لم أكن أحبه… وما زلت لا أحبه… ولكن ذكرى هذه اللحظة راسخة فى ذهنى.
وكان الانطباع السائد فى كل الدوائر أن مصر قنبلة موقوتة. هذا يفسر كلام السفير.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية