مقتضيات التعليق على الأخبار العالمية وتحليلها والوفاء ببعض الالتزامات منعتني، هذا الأسبوع، من قراءة ما تيسّر من كتب تتناول فكرة ومفهوم الحضارة. وأحدد أكثر… بدأت قراءة عدة كتب وعدد قليل من الصفحات فى كل منها، ساد لديَّ انطباع قد يكون خاطئًا بأنها لن تشفى غليلى وأنها تتناول الموضوع من زوايا لا تهمنى حاليًّا.
لذلك تجدوننى مضطرًّا إلى التفكير فى استخدامى لكلمة «حضارة» وما أقصد بها، وقد تكون لهذه المقاربة مميزات؛ أهمها التفكير فى استخدامات الرجل العادى لهذا المصطلح.
فى بحث سريع على الإنترنت وجدت أن الحضارة «كمفهوم شامل تعنى كل ما يميز أمة عن أمة من حيث العادات والتقاليد وأسلوب المعيشة والملابس والتمسك بالقيم الدينية والأخلاقية ومقدرة الإنسان فى كل حضارة على الإبداع فى الفنون والآداب والعلوم».
فى رأيي، هذا التعريف لا يتناول إلا وجهًا واحدًا من وجهَى المفهوم، الوجه الذى يرى – وهو قطعًا مُحق – أن هناك عدة حضارات؛ لكل منها خصوصيتها. وهو تعريف يحاول أن يجمع بين التركيز على التنوع البشرى والتعددية، وبين الإقرار بأن كل حضارة من الحضارات تسمح لأبنائها بالارتقاء والإبداع والعمل على التقدم العلمي، وقد يكون التركيز على هذا الوجه الأول مفيدًا، إن كان دعوة إلى رحابة الصدر وإلى التعامل بجدية مع كون الثقافات متعددة، وإلى عدم التسرع فى الحكم على ما لا نفهمه وما لا نحبه فى الشعوب الأخرى، وقد يكون مُضرًّا إن كان رفضًا للبحث فيما هو مشترك بين كل البشر، ورفضًا للحوار، بمنطق «الشرق شرق والغرب غرب» ولن يلتقيا، وإن كان تنازلًا عن ضرورة عقد المقارنات، أو دعوة إلى كراهية الآخر وشيطنته شيطنة مطلقة.
استخدامى للفظ الحضارة يركز على الوجه الآخر للمفهوم، ولشرحه أطرحُ السؤال التالي: ما نقيض الحضارة؟ نقيض الحضارة ليس حضارة أخرى، عند البعض يكون هذا النقيض البربرية، وعند البعض الآخر قد يكون التخلف، وقد يكون النقيض عند البعض الآخر المجتمعات التى تتسم فيها حياة العامة بالخشونة البالغة و/ أو بالفقر الثقافى والروحي.
باختصار، مفهوم الحضارة يشير إلى «حالة» قد تتنوع تجلياتها أم لا، وهى حالة مجتمع نجح فى ضبط العنف والغرائز الحيوانية، أو فى تأطيرها، وفى تحقيق تقدم يتيح إنهاء حكم شريعة الغابة، وتحقيق تقدم فى مختلف المجالات التى تسهل الارتقاء بالإنسان وبروحه وتسمح له بأن يصبح… «إنسانًا».
يلاحظ أولًا أننى لم أذكر القوة؛ لا الاقتصادية ولا العسكرية؛ لأن علاقتها بالحضارة أمر بالغ التعقيد، أبدأ الخوض فيها بذكر معلومة، التفوق العسكرى الغربى أصبح واضحًا فى مطلع القرن السادس عشر الميلادي، لكنه لا يمكن القول إن الغرب، أيامها، كان أكثر تحضرًا من الصين مثلًا. وفى التاريخ الإغريقى القديم كانت أثينا أكثر تحضرًا من إسبرطة، ولم يمنع هذا إسبرطة من حسم الحرب لصالحها. باختصار، التفوق الحضارى لا يضمن حسم المعركة، ولا يعنى هذا أن الحضارة حتمًا ضعيفة، أو أنها ستخسر حتمًا الحرب ضد قوة متوحشة تمجد القسوة والتقشف والخشونة.
الحضارة نتاج تطور تاريخي؛ أى تمر بمراحل صعود وهبوط، وقوة ووهن، ومحتواها وإنتاجها الفكرى يتغيران مع الزمن. وهذا الإنتاج الفكرى ليس بالضرورة ابن مراحل قوتها وازدهارها، أفلاطون وأرسطو عاشا فى مراحل تراجع الحضارة الإغريقية، وعمق رؤيتهما لمسار المجتمعات والأنظمة السياسية، وفكرهم ابن تفكير طويل فى مسار المدن الإغريقية بين الازدهار والأفول.
ويلاحظ أن الحضارة – كما أفهمها – نتاج تطور تاريخى طويل من التهذيب الجماعى والارتقاء، وفى الوقت نفسه هى «قشرة هشة»، ففى كل منا حيوان متوحش كامن يمكن أن يتحرر من قيود الأخلاق والعادات ويعود إلى شريعة الغابة، ويزداد الخطر عندما يمر المجتمع والثقافة بمحنة أو بتجربة تترك جروحًا عميقة.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية