أكتب هذه الأسطر بخوف وحيرة تشبه حيرة الأعمى الذى ضل طريقه ويبحث عنه دون مساعدة تذكر.
أعيش حياة روتينية، أستيقظ مبكرا – مع بعض الاستثناءات – أتأكد من عدم وجود رسائل على “الواتس آب” أو على “الماسنجر”، ثم أتناول وجبه سريعة، ثم أفتح التلفزيون والكمبيوتر، أتابع القنوات الإخبارية الفرنسية، وعناوين الصحافة العالمية، ومحتوى المواقع الاجتماعية وتحديدا “تويتر وفيسبوك”، وألقى نظرات على البريد الإلكترونى… وأحيانا لا أفتح البريد الإلكترونى قبل الذهاب إلى المركز المصرى. والخلاصة قاطعة فارضة نفسها ثابتة… البربرية والتوحش عادا، الحضارة تموت، التفاهة والأنانية والنرجسية الفردية والجماعية سيدات الموقف.
أقاوم هذا التشخيص موبخا نفسى… أصبحت من المسنين يا توفيق… طبيعى ألا يعجبك الحال لأن العالم الذى نشأت فيه وشكل أفكارك وعاداتك ومدك بأسلحتك وبوسائل الاسترشاد اختفى… أو على وشك الاختفاء، وأنت غير مؤهل للتحرك فى العالم الجديد كما يتشكل الآن، والمشكلة يا توفيق أن مرجعياتك عربية أو قل مشرقية وأوروبية، كاثوليكية وإسلامية وعلمانية (بالمعنى السياسى والثقافى للكلمة)، والعالمين الأوروبى الغربى والعربى فى أزمات شديدة مخيفة… هل أنت متأكد يا توفيق أن الصينى والهندى والكورى والبرازيلى والخليجى متشائمون؟.
هل نسيت يا توفيق وضعك فى الثمانينات؟ الاتصال التليفونى بالخارج مكلف، لا وجود لـ”سمارت فون” ليعينك فى حياتك اليومية، لا بريد إلكترونى يتيح لك الرد السريع وطرح أسئلتك، لم تكن قادرا على متابعة الإنتاج الفكرى والحوارات العالمية، هل نسيت يا توفيق مصر السبعينيات؟ خطوط التليفون خارج الخدمة، التلفزيون بدائى، مياه المجارى طافحة، القطر والطرق فى حالة يرثى لها. المنظومة الصحية – على الأقل فيما يخص العيون نقطة ضعفى – لا تعمل بكفاءة رغم سمعة الأطباء المصريين العالمية. اليوم الوضع مختلف تماما.
ولكن مخاوفى وحزنى لا يتوارون، أتصل تليفونيا بزملاء الدراسة من الفرنسيين، وأجدهم يشاركوننى المخاوف والحسرة، أتحدث مع الطلبة المصريين وأبناء الأصدقاء، أجدهم إما مرعوبين من المستقبل أم غير مبالين.
أتأمل أداء قادة أغلب الدول مقارنا بين الجيل الحالى وأسلافهم… هل من مقارنة ممكنة؟ كيف أقارن بين الرئيس ماكرون وأسلافه ديغول وبومبيدو وميتران؟ كيف أقارن بين شولتز وأدناور وشميت وكول؟ كيف أقارن بين بايدن أو ترامب وروزفلت وأيزنهاور؟ أقزام واقفين على أكتاف عمالقة… ولكنهم أقزام قادرون على هدم ما بناه العمالقة… بعضهم لا يفهم لا فى الاقتصاد، لا فى الأمور العسكرية… ولا فى الشأن القانونى… ولغته ركيكة ضعيفة المبنى، وجهله فاضح.
ثم أراجع نفسى… نعم هناك مشكلة عامة تتعلق بمستوى القيادات وتفاهتها، تعود غالبا إلى عدة عوامل منها منظومة التدريس فى كليات النخبة الغربية، وكنت شاهدا على تدهورها… وعلى فسادها، ومنها ضرورة سرعة البت رغم عمق التناقضات وتعارض مقتضيات الأمن ومتطلبات الاقتصاد، ولكن القضية أكثر تعقيدا… المجتمعات تغيرت والأهم أنها تتغير بسرعة، وعمودها الفقرى ضعف، والحد الأدنى من التجانس لا يتحقق، وأشكال متنوعة من الفوضى تتكاثر… اتخاذ القرار بات أصعب، وأتوقف قليلا وأتساءل… هل ما أسميه فوضى هو فائض من الحيوية لا يجد من يؤطره؟ هل هو من علامات ليبرالية محمودة لم أتعود عليها رغم طول إقامتى فى فرنسا؟.
وأواصل المراجعة… الحضارات المعاصرة نجحت فى تقليل خطر الأوبئة، وفى تحسين الظروف الصحية، وفى تمكين المرأة، والعلوم شاهدت قفزات مذهلة، والعولمة أخرجت مئات الملايين من البشر من دائرة الجهل والفقر والمرض.
ويظل هاجس عودة البربرية مسيطرا على قلبى.
هواجس جياشة، ولكننى سأحاول طرح المسألة بمنهج عقلانى ومقاربة تتوخى الحيطة، ويقتضى هذا تعريف البربرية والحضارة، ومفهوم الأفول، وألفت النظر إلى بعض العواقب، أهمها هيمنة الحضارة الغربية، تأثيرها على العالم وتشكيلها له لا ينكران، وفى الواقع نعرفها معرفة مباشرة، ولكننا لا نعرف غيرها – بما فيها الحضارة العربية الإسلامية – إلا عن طريق الكتب والذاكرة الجمعية.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية