ذكريات عن العمل الأكاديمي
هل قرأ الأكاديمى الكتب التى يتكلم عنها ويشير إليها؟ الرد هو “ربما”.
قال مرة ناقد فرنسى مازحًا… “لا أقرأ الكتب التى أقوم بتحليلها لأن هذا قد يؤثر على حكمى عليها”، قالها ساخرًا من عادة مذمومة منتشرة… الكلام بالشكر أو بالذم عن كتاب دون قراءته.
سألتنى مرة طالبة… حضرتك تقول حججًا قوية أنك لا تحب مؤلفات المفكر فلان… ولكن إنتاجه غزير وأسلوبه صعب، هل قرأت كل كتبه، تتحدث عن عدد كبير من الكتاب مقيّمًا ما نشروه ولا أعرف كيف تعثر على الوقت لقراءة كل هذا. لا سيما أنك تقول دائمًا إن التأنى واجب.
قلت لها… قرأت أهم كتابين له وكرهتهما… نعم لم أقرأ غيرهما، ولكننى أمتلك دفتر تليفونات وشبكة زملاء وأصدقاء من الثقات، وأحيانًا نكلف أحدنا ليضحى بعضًا من وقته ليقرأ هذا التافه… لنعرف هل أجاد الرجل فجأة؟ ولا أستطيع أن أجزم أننا قرأنا كل الكتب ولكن المجموعة ككل قرأت خمسة عشر كتابً له وكانت كلها من عيّنة واحدة.
وأضفت… الكاتب علان… قرأت له كتابين، فى المرة الأولى كنت شابًا عديم الخبرة ورغم هذا لم يعجبنى عجزه عن تحديد موضوع بحثه وسؤاله، إلى جانب عدم معقولية الفكرة الرئيسة، ثم اشتريت كتابًا آخر له وأنا فى سن الأربعين، ووجدت العيوب نفسها، ثم فوجئت وأنا فى الثالثة والخمسين بأستاذى ومعلمى يقول لي… أعرف رأيك فى هذا الكاتب وهو مبرر، ولكننى أدعوك إلى قراءة كتابه الأخير، فهو كتاب رفيع المستوى عميق التحليل… واشتريت الكتاب.
وكان الكتاب فعلًا ممتازًا، وكان عبارة عن نقد صارم ولاذع لمدرسة ذائعة الصيت من مدارس البحث التاريخي، وقلت للمشرف… أشكرك وأضيف أن الرجل أبلى بلاءً حسنًا، أنا كنت قرأت أشهر كتابين لهذه المدرسة وقررت أنها “كلام فاضي”، ولكننى لم أتابع إنتاجها بعد ذلك، الرجل قرر تخصيص سنتين أو ثلاث من عمره لقراءة كل إنتاج هؤلاء، فأعطى لهذه المدرسة فرصتها، وأتخيل تأثير هذا على مزاجه… أنا شخصيا عاجز عن تخصيص سنتين من عمرى لقراءة كلام تافه. ولكنه فعلها وقدم للطلاب والأجيال القادمة تحذيرًا موثقًا من جاذبية هذه المدرسة وخواء تحليلها.
أقول دائمًا لطلابى أن الأستاذ القدير هو الذى يقرأ كثيرًا، ويكتب بتروٍ، دون تسرع، ويمتلك دفتر تلفونات. أقصد أن لديه شبكة زملاء أو أصدقاء يثق فى سداد رأيهم وعمق تقييمهم، ليسألهم إن اضطر إلى التطرق لموضوع لا يملك الوقت الكافى للتبحر فيه.
يوم مناقشة رسالتى قال أحد أعضاء اللجنة إنه يثنى على عملى لأن قائمة مراجعى محدودة نسبيًا، ولكن رسالتى تثبت أننى قرأت فعلًا الكتب المذكورة فيها، وتعجبت، وقال لي… أغلب الطلبة يذهبون إلى كتالوج مكتبة المعهد، وينقلون كل العناوين ولكنهم لا يقرأون إلا أقل القليل ويكتفون عامة بقراءة مقدمة بعضها – إن قرأوها.
المشرف على رسالتى كان يعمل بطريقة مختلفة بعض الشيء، يقرأ مقالًا أو كتابًا يثير اهتمامه، وإن بدا له الكلام معقولًا يعود إلى قائمة المراجع، ويبدأ فى قراءتها بسرعة يحسد عليها، وبعد شهرين أو ثلاثة يكون إلمامه بالموضوع كإلمام أبرز المتخصصين ويسعى إلى التواصل معهم لمناقشتهم، ولكن هذه القدرة – القراءة السريعة دون الوقوع فى مستنقع السطحية والتسرع- لا تتوافر لدى الكثيرين ولا فى كل المراحل العمرية، ولا تشمل كل المجالات.
القراءة العميقة تتطلب قراءة بالعقل والقلب وقدرًا من رحابة الصدر، قراءة بلا سذاجة ولا تربص، القراءة الموضوعية ليست أمرًا سهلًا، لا أعرف إن كنت دائما قادرًا عليها، أتفاعل مع ما أقرأه، بالتحمس أو بالاستياء أو بالغضب، ويشرد ذهنى وتتوالى خواطرى بسرعة. وأحيانا أتساءل… ما أتذكره… هل هو الكتاب وأفكاره؟ أم حالتى وأفكارى عندما قرأته؟ الرد يقتضى إعادة القراءة للتأكد…
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية