خواطر مشتتة عن كليات الآداب والعلوم الإنسانية
لا أنكر أن مناهج هذه الكليات تحتاج إلى مراجعة، وأن عددا من الطلبة لا يستفيدون ولا يتعلمون ولا يتذوقون، ولا أنكر أن هناك بين المثقفين من ذوى المستوى الرفيع من باع ضميره، ومن أثر تأثيرا ضارا على توجهات قطاعات كبيرة من الجمهور… عن قصد أو دون قصد.
هناك عوالم لا بد من دخولها لفهم جمالها وإدراك عمق تأثيرها ومساهمتها فى الارتقاء بنا، عوالم قد يرى الكثيرون أن لا حاجة إليها، وهم معذورون، لأنهم لم ينعموا بنشوة التذوق وبتجربة الثورة الفكرية، ولا بسكرة التفاعل مع ما تركه لنا الأجداد العمالقة، ولا بتوسيع المدارك الذى تتيحه الإنسانيات.
لتوصيل الفكرة أقول للقارئ، تعلم تماما أن من لم يشاهد فيلما عظيما لا يعرف ما فاته، وأن شرح سحر الفيلم له شبه مستحيل. هذا الكلام ينطبق أيضا على الإنسانيات.
سُئل أفلاطون مرة عن «فوائد» الفلسفة، ورد قائلا ما معناه… «الفلسفة لا فائدة منها، وتثير سخرية الخدم». الفلسفة هى بحث عن الحقيقة بحثا متجردا متساميا نزيها لا يرمى إلى تحقيق شيء سوى الاقتراب من هذه الحقيقة، من شأن أى غرض أيا كان إفساده، فلنقل أن هذا البحث يشبه التجربة الصوفية الأصيلة، وشأنه شأن الصوفية لا يقدر عليه الكل.
ولهذا يصعب إقناع من لم يتعرف عليها بأهميتها، وفى المقابل يكون خطرها واضحا جليا، الحقيقة قد لا تعجب، الفطاحل القدماء– وفقا للشراح الكبار- كانوا يعلمون أن الفلسفة هى تسامٍ شبه صوفى بحثا عن الحقيقة، وكانوا يعلمون فى نفس الوقت أن الفتنة نائمة لا مصلحة لأحد فى إيقاظها. ولذلك التزموا الغموض فى التعبير عن أفكارهم، كتبوا كتابة باطنية يقضى حل ألغازها أشهرًا من القراءة المدققة، كل نص له معنى ظاهر، يكفى إن كان المراد الارتقاء بالمواطن العادى وتهذيبه، وحقيقة باطنية مختلفة عن المعنى الظاهر وأحيانا تناقضه.
أمثلة بسيطة… يقول فيلسوف فى مقدمة كتابه أن كتاب معلمه ذائع الصيت والتأثير جاء بالكلمة الفصل، وأنه سيشرحه شرحا وافيا مساهمة منه فى نشره وبيان كماله، ثم نجده يغفل فصولا كاملة، معنى هذا أنه يرى أن التوفيق خان أستاذه فى هذه الفصول، ودعما لهذا تجد فى بعض فقرات الشرح إشارات سريعة أو خواطر توحى أنه يرى غير رأى أستاذه فى الفصول التى تجاهلها.
مثال آخر… يقول فيلسوف رومانى من القدماء أن روما أعظم مدينة فى التاريخ، وأن نظامها السياسى أكثر الأنظمة عدلا، وأن مشرعى قوانينها أعظم وأحكم المفكرين. ثم يخوض فى سمات الحكم العادل وهى لا توجد فى روما على الإطلاق، ويذكر المشرعين الكبار الذين نجحوا فى إقامة العدل، ولا يوجد أى رومانى فى القائمة التى يوردها… كل هذا يعنى أنه يقول للقارئ اليقظ… لا تصدق الكلام عن عدل روما.
الأمثلة الهامة والدالة أكثر تعقيدا وأعمق دلالة.
قد يسأل السائل ولما نقوم بخوض التجربة ولما نهتم بمجال لا يساهم فى زيادة الإنتاج وفى بناء البنية التحتية وفى إخراج المواطن من دائرة الفقر والمرض… ولما لا تحترم رغبة القدماء فى بقاء فكرهم فى دائرة محصورة قليلة العدد…
الرد الحقيقى الصادق هو دع الراغب فى خوض التجربة يخضها وساعده، وسترى النتيجة بعد حين. وبما أن المستمع الكاره لكليات الآداب لن يقتنع، سأقول له، أرسطو كان حريصا على بث فكره فى دائرة ضيقة للغاية، وكان يقول إن فكره لن يصلح الفاسد ولن يرتقى بالفاضل، ولكنه يخاطب المشرع الدستورى والمشرع الحريصين على إصلاح الأمة وأفرادها ليكونوا مواطنين أفاضل وسعداء. وسأضيف له أن أرسطو أشرف على تربية حاكم دون أن أخوض فى مسألة إخلاص هذا الحاكم لفكر أستاذه. يكفى عليه أن يعرف أن هذا الحاكم هو الإسكندر الأكبر.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية