لا أعرف إن كانت التصريحات التى نسبت لنائب موقر محرفة، أم قيلت فى سياق يجعلها مقبولة، ولكننى أريد أن أستغل الفرصة لأتكلم عن الأدب، وعن التاريخ، وعن الفلسفة وعن علم النفس وعن الأنثروبولوجيا… إلخ. أو عن الفنون الجميلة.
لست متخصصا فى هذه المجالات، ولكننى أعرف كم أنا مدين لها، وكم أنا مدين لوالدتى ووالدى اللذين كوّنا مكتبة فيها المئات من الأعمال الأدبية، وأعرف دور مدرسى اللغات فى تثقيفى وتهذيبى وفى توسيع مداركى وتعليمى التذوق. وأشكر كل من أرشدنى إلى عمل أدبى قيّم، أو قصيدة شعر رائعة.
الأعمال الأدبية ليست فقط نافذة على ثقافة وتاريخ بلادك وثقافات وتاريخ غيرها، هى أيضا معلم يرتقى بك، يعلمك كيف تتعامل مع الناس، وكيف تفهمهم، وكيف ومتى تعذرهم وكيف ومتى تدينهم. الأعمال الأدبية عاونتنى وأنا مراهق على فهم المرأة، أو النساء، وتعقيدات دوافعهن، وكيفية مخاطبتهن، وماهية الأخطاء التى يجب تفاديها. لا تدرك حجم مأساة الفقراء أو معاناة العمال أو هموم البرجوازية الصغيرة أو غيرها من الطبقات دون أعمال أدبية، لا تدرك جبروت الشر وعظمة الخير دون قراءة روايات، لا تفهم من لا يؤمن بدينك دون أعمال أدبية.
كم أحببت وتعلمت من روايات تدور حول صراع المرء مع نفسه ومع عيوبه، أو مع زملائه فى العمل، أو حول تنافس الرجال على امرأة جميلة، أو عن الكوارث الناتجة عن سوء تفاهم كان يمكن تفاديه… كم تعلمت من أدب الرحلات، كم تعلمت عن الروايات التى تجرى أحداثها أثناء ثورات أو حروب…. كم أحببت وتعلمت من الروايات السياسية أو البوليسية… الأعمال الأدبية سفر إلى أراضٍ وممالك وعوالم جديدة. وكما يقول القائل للسفر سبع فوائد…
ولست حالة شاذة… قال فيلسوف هو من أعظم ثلاثة فى القرن الماضى إنه وجد فى الروايات البوليسية العظيمة كنوزا لم يجد مثلها فى كتب علوم الاجتماع أو غيرها. ورغم أننى من المعجبين بعمق هذه الروايات، لن أزعم أنها أرقى أنواع الأدب وأحسنها تربية لقارئها. قال فيلسوف فرنسى عن رواية الحرب والسلام لتولستوى، “اقرأ هذه الصفحات الخالدة مرات ومرات، لن تجد مثلها أو ما يقترب من مستواها فى أى مكان آخر” .
لن أطيل أكثر من هذا، قد يتصور البعض أن كل هذا ترف وأننا لا نحتاج إلى مواطن له رؤية إنسانية عابرة للتخصصات والحضارات وقادر على فهم العالم والآخر، وأن المطلوب هو شخص يفهم فى تخصص علمى واحد، ولا يفهم فى غيره. المطلوب هو الخبير. المطلوب هو “الأرقام” و”البيانات” و”كلام يعتمد على براهين علمية” و”الإلمام بأحدث الاختراعات”، أما “الانطباعات” و “الكلام بلا سند تقنى أو علمي” و”الكلام الشعري” أو “المهارات البلاغية”، كل هذا غير مرغوب فيه، الأدب يفرز مثقفين وأداء الجماعة الثقافية لا يسر الكثيرين من داخلها ومن خارجها.
قبل أن نناقش هذه الثنائية فى مقال لاحق نقر ببعض النقاط التى تبدو لنا صحيحة، نعم هناك من ينضم لكليات الآداب دون أى انجذاب أو رغبة فى تعلم أى شيء، ونعم فى جماعات المدرسين وفى الجماعات الثقافية عدد بل أعداد من الفاشلين، ونعم أغلب الإنتاج الأدبى الحالى ضعيف لا يحتاج إلى نقد أدبى بل إلى “نقد الفئران”. ومستوى التعليم فى المدارس ضعيف، ومصر ليست الدولة الوحيدة التى تعانى من هذه الظواهر، المشكلة أن وجود السيئ لا ينفى الحاجة إلى الجيد، بل يؤكدها، وأنه لا يوجد من وجد وسيلة لمنع السيئ وإقصائه دون منع الجيد والسامى.
أبدأ قائلا… فى إطار البحث فى موضوع رسالة دكتوراه الدولة الفرنسية، قرأت الآلاف من الوثائق ومئات الكتب، وأكثر ما ساعدنى على فهم قاهرة الثلاثينات… وجيل ناصر والوالد… الشوارع الخلفية… رواية عبد الرحمن الشرقاوى.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية