خواطر مشتتة
أتوقف مؤقتًا عن الكلام عن تطور المشهد الأوروبى آخر ثلاثين سنة، وهو توقف سببه الحيرة، الحيرة فى تحديد هدف السرد… هل هو رفض لنظريات المؤامرة التى تحكم عقول الكثيرين منا (العرب والمصريين)، ومنهم (الروس والغربيون)… رفض يحاول دحضها ببيان حسابات وتحركات الفاعلين أمام مشهد دولى جمع بين التعقيد والجديد غير المسبوق… أم هو رغبة منى فى قدح المسئولين الغربيين الذين ارتكبوا الخطأ تلو الآخر، والبحث عن تفسير لرداءة الأداء وتفاهة التصورات ورعونة القرارات… أم هو مراجعة للذات، أعرف تمامًا أن بعض القرارات بدت لى خاطئة منذ ساعة اتخاذها، لكن هناك قرارات أخرى بدت لى فى أول الأمر حكيمة، واليوم أراها تافهة، وهو أمر محير لشخص جزء من عمله يفترض القدرة على التقدم بتوصيات وتحرير تقديرات الموقف، أم هو أخيرًا تفكير فى قضية التناقض الذى يظهر كثيرًا بين الاعتبارات والمصالح الحالّة، وبين اللازم على المدى الطويل، وتفكير فى قدر الساسة… اتخاذ قرارات سيلعنها التاريخ للكوارث التى ستتسبب فيها على المدى الطويل، رغم ضرورتها اللحظية وسلامة نيات أصحابها.
الكابوس الذى يرعبنى هو قيامى بكتابة توصية يتم الأخذ بها وتتسبب فى كارثة لم أتوقعها، لذلك تنتابنى حالة من الذهول عندما أسمع خبيرًا يذم السلطة لأنها لم تعمل بتوصياته، قد تكون هذه التوصيات أذكى من قرار الدولة، وقد يكون قرار الدولة واضح العيوب، لكننى لا أرى ما الذى يدفع الخبير إلى التأكد من صحة توصياته التى لم تنفذ، وبالتالى لم تختبر، أو بمعنى أدق أظن أن هذا التصور مبنيٌّ على فرضيات ليست مؤكدة، وهى أن هناك شيئًا اسمه دروس التاريخ والعلوم الإنسانية، وأن قياسًا دقيقًا لموازين القوة دائمًا ممكن، وأن اللاأخلاقية دائمًا قرار رابح، أو العكس، أن الاستثمار فى السلوك الأخلاقى دائمًا مفيد.
يقول هيجل إن الدرس الوحيد الذى يحمله التاريخ هو أنه لا يحمل دروسًا. وفى هذا شيء من المبالغة، لكنه إشارة إلى عدة حقائق؛ منها أن القياس على وقائع سابقة يكون فى أغلب الأحوال قياسًا مع الفارق، والفارق الأوضح هو الفارق بين تكنولوجيا اليوم وتكنولوجيا الماضى – أواخر القرن الماضى مثلًا. عشت أربعين سنة من عمرى دون بريد إلكتروني، وخمسة وأربعين سنة دون موبايل، وعدة عقود دون إمكانية قراءة الصحافة العالمية، ولو بدأت سلسلة مقالات عن تأثير التكنولوجيا على الحروب سأحتاج إلى عدة سنوات لبيانه. كلام المُنظّر الألمانى كلاوزويتز عن تفوق الدفاع فى الحروب كان صحيحًا فى فترة، ثم خاطئًا فى فترة أخرى، ثم عاد صحيحًا، واليوم أتصور أنه لا يمكن الحسم بدقة.
أى باحث فى العلوم الاجتماعية يعرف أن القانون فيها يعنى «فى أغلب الأحوال يحدث كيت عندما تتوافر الشروط كيت وكيت»، قلت: فى أغلب الأحوال وليس كلها. من المعروف مثلًا أن النظام الحاكم الذى يواجه ثورة يحاول غالبًا جذب المعارضين المعتدلين المنخرطين فى الثورة ليقفوا إلى جانبه، وأن هذا التوجه يتحقق عن طريق تخويف المعتدلين من المتطرفين، لكن هناك أنظمة فضلت تصفية المعتدلين ليكون الشعب مخيرًا بينه وبين المتطرفين من الثوار. وفى الإطار نفسه يمكن القول إن التاريخ لا يعلمنا أى شيء عن التوقيت الأمثل لتقديم التنازلات، من السهل أن نقول… على النظام ألا يتسرع وألا يتأخر. هذا الكلام لا يقدم ولا يؤخر.
الإنسان حر ويتطور ويتغير… وبالتالى توقع سلوكه صعب، جبان قد يظهر فجأة قدرًا من الشجاعة المذهلة، بطل يضعف فجأة… غبى يقول كلامًا عميقًا… إلخ.
لا يعنى هذا أن دراسة التاريخ ليست مهمة، بل هى بالغة الأهمية؛ لأنها تحصننا ضد الإطلاق والتسرع فى الأحكام، وتعين عليَّ صياغة الأسئلة التى يتعين التفكير فى الرد عليها أثناء عملية تحضير القرار. قلت الأسئلة… ولم أقل الإجابات.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية