عاشت منطقة الشرق الأوسط حقبة أمريكية طويلة، واعتاد كل الفاعلين على هيمنة الولايات المتحدة، سواء قبلوها أو قاوموها٬ والآن٬ أقصد منذ رئاسة أوباما الأولى، تسعى الولايات المتحدة إلى تقليل التزاماتها بأقصى حد ممكن، قادتها يتحدثون بين الحين والآخر عن «انسحاب» أو عن «تحول إلى آسيا»، لكن الانسحاب الكامل غير ممكن ومضر. ما يحدث على أرض الواقع منعه، فتكتفى واشنطن بالسعى إلى تحميل دول المنطقة نصيباً أكبر من الأعباء والمهام.
هذا الحديث الأمريكي٬ الناتج عن تكلفة حرب العراق الكارثية وعن صعود الصين٬ فتح شهية دول٬ لها ذكريات وأطماع ومشروعات إمبراطورية، بعضها يتقدم بصخب معتمداً على قوى عسكرية أو جماعات مسلحة٬ وأقصد بها إيران وتركيا وروسيا٬ وبعضها يفضل المقاربة الهادئة المعتمدة على ذراع الاقتصادى وعلى أساليب الإغراء، وأقصد بها الصين.
لم أذكر إسرائيل ولا الاتحاد الأوروبى على أهميتهما٬ لأنهما لم يحاولا تغيير طبيعة النظام الإقليمى الذى كان يؤمن مصالحهما. ولكنهما شأنهما شأن الولايات المتحدة يملكان من الأدوات ما يسمح لهما بتغليب فريق على الآخر أو بإفشال، أو على الأقل، تعطيل مشروع لا يعجبهما.
من الصعب ومن المبكر إجراء مقارنات دقيقة٬ لكن يبدو لى أن تركيا كانت الفاعل الذى يملك أفضل الأوراق، فهو كان يتمتع برضا دولى، وبإعجاب فى أوساط المسلمين٬ وبعضوية الناتو وبموقع جغرافى فذ، وبجيش فوى. وباقتصاد عفى، وكان وما زال متحالفا مع جماعة الإخوان المسلمين صاحبة الأذرع الطويلة فى دول عديدة٬ لكن رئيسها رجب طيب إردوجان ارتكب الأخطاء الإخوانية التقليدية٬ عجز فى قراءة الواقع٬ احتقار للخصوم واستهانة بأوراقهم، استعجال غبى أكد مخاوف المتوجسين وتصريحات عنترية، إدارة غير موفقة للاقتصاد، وتوظيف الدين بشكل فج أثار استياء المتدينين وغيرهم.
طبعا لم ينته الصراع على الهيمنة، وما زالت تركيا تحتفظ بأوراق مهمة٬ وهو ما زال قادراً على انتزاع زمام المبادرة وعلى مفاجأة خصومه٬ ولكن وضعه الحالى لا يقارن بوضعه سنة 2011.
وفى المقابل امتلكت إيران القليل من الأوراق ولكنها أجادت إلى حد كبير استعمالها، إلا لو اعتبرنا أن الاقتراب من المجال الحيوى لإسرائيل خطأ فادح. إيران كانت تئن تحت عقوبات دولية قاسية٬ وعقوبات أمريكية تسببت فى تعطيل تقدمها ونهضتها٬ وكانت على عكس تركيا محاطة بدول تعاديها أو تناوئها منها دول الخليج طبعا وروسيا الخصم التقليدى ومنافسها فى سوريا وباكستان٬ وفى المقابل فإن كوادر الدولة الفارسية يتمتعون بخصال منها الكفاءة والوطنية وشراسة لا تلغى العقل ولا تغنى عنه. وأتقنوا فنون الحروب غير المتكافئة، ونجحت طهران فى تصوير نفسها على أنها حامية الشيعة وقائدة محور المقاومة.
قارن بين تقدمها الحثيث وبين تخبط أنقرة على مختلف الجبهات ورغم براعة طهران فإنها قد تكون فى طريقها إلى خسارة المعركة٬ أو على الأقل إلى الاضطرار إلى تراجع٬ ما لم يرتكب أعداؤها خطأ كبيراً، أو تخلوا عن المواجهة لسبب أو آخر٬ ودعونا لا نستبق الأحداث، واكتفى بالقول إن صلابة أو هشاشة جبهة إيران الداخلية قد تكون عاملا محوريا، شأنها شأن قدرتها أو عجزها عن التأقلم والتصدى للاستراتيجية الأمريكية تحت رئاسة ترامب.
الطرف الثالث وهو روسيا هو أقواهم عسكرياً، ويجيد فنون حروب الجيل الرابع والخامس٬ ويملك أذرعا غير رسمية مثل ميليشيات فاجنر، ولكنه بعيد جدا عن قواعده٬ ولا يملك قدرات الأطراف الأخرى على التجذر٬ وهو طرف يتم استدعاؤه من قبل فاعلين محليين لا يرتبطون به طائفيا ولا دينيا ولا عقائديا.
وفى المقابل هناك جماعة الدول المعتدلة، التى لا تتبنى مشروعات امبراطوريا بل تخوض معركة التنمية والنهوض.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية