أوروبا وعشرون سنة من النوم (4)
على من يريد فهم تطور العلاقات بين الغرب تحت قيادة الولايات المتحدة وروسيا فى تسعينيات القرن الماضي، قراءة بعض المؤلفات منها مذكرات ستروب تالبوت أو كتاب لديفيد هالبرستام “الحرب فى زمن السلام”، ومنها كتاب للدكتور بوظو عن السياسة الخارجية الفرنسية، وسأعرض هنا كتاب الدكتورة مارى ساروت “لا بوصة واحدة”، الذى يدرس الجدل أو التفاهمات أو الصراع ببن واشنطن وموسكو حول تمدد الناتو شرقًا ومصير أوروبا الشرقية وسكانها – كانوا أكثر من مائة مليون أيامها.
وطرحت فى نهاية المقال السابق السؤال الرئيس الذى يشير إليه عنوان كتاب الدكتورة – هل قدم الأمريكيون وعدًا شفويًا للروس – كما يزعم النظام الروسي- بأن الناتو لن يتمدد شرقا ولو ببوصة واحدة؟ وهذا يعنى …هل قبلت الولايات المتحدة تصورًا مفاده أن تكون كل دول أوروبا الشرقية منطقة رمادية عازلة بين الناتو وروسيا، ضاربة بعرض الحائط مطالبها بالحماية من المارد الروسي؟
الرد كما قلنا الأسبوع الماضى هو “لا” قاطعة، فكرة عدم التمدد فكرة ألمانية لدفع موسكو على قبول توحيد الألمانيتين، ولم يعترض وزير الخارجية الأمريكي، ولكن الرئيس بوش رفض تقديم مثل هذا العرض رفضًا قاطعًا، منذ اللحظة الأولى.
قلت “منذ اللحظة الأولى” لأن موقف الولايات المتحدة من حدود وإطار هذا التمدد تغير خلال العقد، فالاتحاد السوفيتى سنة 1991 كان أضعف من الاتحاد السوفيتى سنة 1989، ونشبت صراعات مسلحة منها حروب البلقان وحرب الشيشان مما دفع واشنطن إلى تغيير موقفها وعددًا متزايدًا من الدول إلى الإلحاح من أجل الحصول على الحماية الأمريكية، وقرر الأمريكيون عدم الالتفات إلى الاعتراضات الروسية و”شراء موافقة موسكو” – كما قال الرئيس كلينتون- بدعم اقتصادى كبير قبلته روسيا، وبتدشين حوار بين الناتو وروسيا – ووافقت الأخيرة.
قلت سابقًا إن جورج كينان مهندس إستراتيجية الاحتواء التى ضبطت الأداء الأمريكى خلال أربعة عقود (47/89) اعترض على التمدد، ومن ناحيتها ترى الدكتورة ساروت أن السلوك الأمريكى لم يتسم بالحصافة ولا ببعد النظر، وأن إدارة كلينتون أخطأت عندما استبعدت خيارًا طُرح وقُتل بحثًا وهو “إقامة شراكات دفاعية” بين الناتو ودول أوروبا الشرقية، دون التسرع فى ضمها، وتعتبر أن هذا الخيار المستبعد كان يحقق الغرض دون استفزاز لروسيا. وشخصيًا أرى غير رأيهما، وأيًا كان الأمر هناك شيء مؤكد- لم يقدم الرئيسان الأمريكيان الذين تعاملا مع الملف أى وعد لروسيا فيما يتعلق بالتمدد، القول بغير هذا كلام فارغ.
بعد انهيار المعسكر الشيوعى كان للغرب هدفان من الصعب الجمع بينهما، من ناحية ضمان أمن شعوب أوروبا الشرقية ومساعدتها على الانتقال من نظام سياسى اقتصادى إلى آخر، ومن ناحية أخرى إقامة وتعميق التعاون مع روسيا لمنع انهيارها وتفتتها، ولإرساء السلام فى أكبر عدد من المناطق.
هل كان الجمع بين الهدفين مستحيلا؟ أتصور هذا ولكن الدكتورة ترى أن إدارة كلينتون ضلت الطريق فى عدد من المناسبات، وتكتب أن الإستراتيجية الأمريكية المثلى كانت تقتضى تفادى طرح مبكر لسؤال تمدد الناتو، والتدرج فى تقديم الدعم الأمنى لدول أوروبا الشرقية، بأساليب متنوعة تختلف من دولة إلى أخرى، وهى إستراتيجية رسمها الرئيس جورج بوش الأب ونفذها هو ثم الرئيس كلينتون فى بداية ولايته – وبعد ذلك دفعه مجرى الأحداث إلى تركها، وإلى تسريع عملية ضم عدد من الدول إلى الناتو، بأسلوب لم يراعِ الحساسيات الروسية.
ما يدفعنى إلى الاختلاف معها هو من ناحية تقييمى لتأثير الأحداث واندلاع الحروب فى البلقان وبلاد الشيشان، وتقديرى لدور الذاكرة السياسية فى صنع المدركات، والطفرة الفاشية فى الخطاب الروسى أيامها، خطاب ترجم إلى ممارسات بشعة فى حرب الشيشان، من السهل الكلام بعد مرور الوقت، إيامها بدا تطمين وتأمين أوروبا الشرقية واجبًا وضرورة، رغم اعتراضات المؤسسة العسكرية “البنتاجون”.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية