أوروبا وعشرون سنة من النوم – ملاحظات اعتراضية (3)
أتصور، وقد أكون مخطئًا، أنه لا يمكن فهم أحوال اليوم دون دراسة وفهم السنوات التى تَلت انهيار المعسكر الشيوعى.
وأقول إن وصف وتحليل ما حدث ليس اقتراحًا صريحًا أو ضمنيًّا بتبنّى سياسة أو موقف ما. هذا الوصف والتحليل هما استثمار فى الوعي، وشرح لكيفية فلترة ما يقوله الفاعلون المتناحرون، واقتراح صورة للنظام العالمى ولخطط وإستراتيجيات الفاعلين قد تكون أدق من الصور النابعة من روايات كبرى لها حضور قوى فى مصر، وأتصور أنها تمنع فهم الواقع.
لا أزعم أن عدم فهم الواقع أو سوء فهمه يؤديان حتمًا إلى مواقف للرأى العام أو إلى سياسات خاطئة، فالتاريخ حافل بوقائع نجد فيها صاحب قرار يتبنى سياسات صحيحة، رغم أنها مبنية على افتراضات خاطئة، وصاحب قرار فاهمًا لدقائق الأمور وعاجزًا تمامًا عن رسم سياسات فعالة، لكن الفهم السليم والوعى السليم أكثر أمانًا. وأضيف أننى لست متأكدًا أن ما أراه هو الصواب، لكننى متأكد أن عددًا من الروايات تكرس قراءة خاطئة.
المشترك بين هذه الروايات هو إمكان تصنيفها فى خانة نظرية المؤامرات، إضافة إلى هذا؛ كل منها رؤية للعالم ترى أن الأصل هو الحرب والصراع والخطط السرية الشريرة، وأن هذا الأصل دائم وشامل لكل التفاعلات والتعاملات والحوارات، وأنه لا يمكن تحليل وفهم أى جانب من جوانب الصورة دون التشديد على مركزية هذا الأصل، وأغلب هذه الرؤى السائدة يروى قصة وهمية نصدقها لأنها تتفق وأفكارنا المسبقة ورواسب تركتها تجارب فى نفوسنا، وتدفعنا إلى اعتقاد أن الغرب كتلة واحدة، عقل واحد وأذرع متعددة تنسق فيما بينها، عقل يحسب كل خطوة بدقة، ويعرف ما هو فاعل، ويوزع المهام بمهارة، وتقول إن كل ما نعانى منه؛ من ظلم وكوارث ومصائب، ناتج عن قرارات غربية واعية منطقية منسقة.
محاولة دحض هذه الصور لا تعنى طبعًا إعفاء الغرب من كل مسئولية عن أحوال العالم، ولا تعنى توصية بتبنى مواقفه ورؤيته للعالم وبتصديق كلامه والعمل بتوصياته، ولا تعنى رفضًا للتصدى للسياسات الغربية التى تضر بنا، ولا تعفينا من وجوب هذا التصدي، ومن ضرورة نقد نرجسيته ومختلف صورها، ولا تعنى تبنى التصور الساذج المضاد – أن الأصل فى العلاقات الدولية الحب والتآخى والتعاون. ولا تعنى إنكارًا لواقع مفاده أن هناك من الفاعلين من يملك قدرات على التأثير الهائل وغير الشرعى على مستقبل الدول والشعوب، وأنهم لا يحسنون استخدام هذه القدرات.
هدفى هو التشديد على ضرورة فهم الثقافات السياسية والإستراتيجية للفاعلين، وعلى ضرورة استخلاص الوقائع فى ظل وجود قوى وتيارات فاهمة لهواجسنا وهمومنا وقضايانا المشروعة ومستغلة لها، وتيارات وقوى أدمنت الفبركة لدغدغة مشاعرنا، وعلى ضرورة عدم الاكتفاء بتفسيرات سطحية مريحة. وأتصور أن تصديقنا لهذه الفبركة يضر، على المديين المتوسط والبعيد، بمصالحنا وقضايانا.
ما علاقة هذا الكلام بهذه الحلقات؟ أرى أن الروايات السائدة فى عقلنا الجمعي، والتى قد تصلح أحيانًا لفهم تاريخ منطقتنا، لا تصلح لفهم تاريخ مناطق أخرى.
أريد الآن أن أبدأ بتخصيص فقرات لمسألة تمدد الناتو، لأهميتها فى الخطاب الروسي. من المعروف أن الكرملين يزعم أن الغرب خان وعدًا شفويًّا قدم لجورباتشوف بعدم التمدد شرقًا، وأن موسكو بغزوها أوكرانيا تعاملت مع تهديد حيوى يشكله «الناتو».
هل قدم الأمريكيون وعدًا شفويًّا لجورباتشوف؟ نلاحظ أولًا أن الكلام عن «وعد شفوي» فى قضية بهذه الأهمية أمر عجيب، ويثير السؤال: لماذا لم يصر السوفييت على توقيع اتفاق مكتوب؟
سأخوض فى هذه المسألة لاحقًا. باختصار… موضوع عدم التمدد اقتراح ألمانى وافق عليه وزير الخارجية الأمريكى عندما فاتحه نظيره الألماني، لكن الرئيس بوش رفضه رفضًا قاطعًا عندما فاتحه وزيره فى الأمر، وتم إبلاع السوفييت والألمان.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية