أوروبا وعشرون سنة من النوم (1)
بدأ مشوارى بمجال العلوم السياسية فى بداية الثمانينات صحفيًّا أولًا، ثم طالب دراسات عليا فى معهد العلوم السياسية بباريس، وتعلمت على يد فطاحل، ومن خلال التواصل مع من سبقنى فى مشوار المعرفة والتحدث مع زملاء الدفعة.
وعدت إلى مصر سنة 84، وبعدها بتسع سنوات سافرت إلى باريس، وكان المشهد قد تغير تمامًا.
وكانت مشاهداتى فى التسعينات من القرن الماضى، وفى أول عشرين سنة من هذا القرن تصيبنى بالحيرة… سلوك القادة الأوروبيين، وبدرجة أقل القادة الأمريكيون يخالف بل يناقض كل ما تعلمته، أو على الأقل ما تصورت أننى تعلمته.
وأقمت فى باريس من سنة 1993 إلى سنة 1999، ثم من سنة 2009 إلى سنة 2013، وفى التسعينات كنت كثير الشك فى حدسى، وكنت أتساءل… هل المشكلة فى قناعاتى وخلفياتى الدينية والفكرية وعُقدى النفسية وعدم فهمى للأمور؟ هل تعمينى أحوال منطقة الشرق الأوسط وتجربتى الشخصية وتمنعنى من فهم تطور النظام العالمي؟ وقد تستحق معاناتى الشخصية وانطباعاتى وأزمتى كتابًا يحاول وصف الأجواء التى سادت آنذاك فى أوصاف النخب الأوروبية بصفة عامة، والباريسية بصفة خاصة، لكننى أخشى ألا أكون منصفًا؛ فالمشهد الحالى يدفع إلى التركيز على رصد الأخطاء التى ارتكبت، وإلى التنديد بالمزاج العام أيامها، فى حين أن الحقيقة أكثر تعقيدًا.
أقصد أننى أخشى من ميلى إلى المبالغة فى نسبة الأخطاء التى ارتكبت إلى تفاؤل غبى، وإلى تراجع فى الإحساس بالمسئولية وإلى شعور بالنشوة سببه انتهاء الحرب الباردة والانتصار على المعسكر الشيوعى، وإلى صعود جيل من الساسة لا يفهم أبجديات الإستراتيجية والأمن، إلى ظاهرة لا أعرف كيف يمكن وصفها… عبادة اللهو والتفاهة… ومن ميلى إلى رسم صورة تتلخص فى جملتين… صاحب اختفاء الخطر الشيوعى، اختفاء الأجيال التى عرفت الحرب العالمية الثانية وأهوالها وبدايات الحرب الباردة، وهى أجيال كانت تتعرف قيم الانضباط والتعامل الجاد مع المشكلات والتخطيط على المدى الطويل، وحلّ محلهم أجيال من عينة أخرى.
قطعًا، ما سبق جزء مهم من الصورة لا تكتمل دونه، لكن الإنصاف يقتضى أن نقول إن انهيار المعسكر الشيوعى أدى إلى ميلاد عالم جديد ونظام عالمى مختلف وأشد تعقيدًا، وأن التعامل مع أى جديد جذرى أمر بالغ الصعوبة.
لذلك سأكتفى، فى المقالات التالية، بإشارات سريعة إلى بعض القرارات الكارثية التى أدت مع غيرها إلى المشهد الحالى. كان من الصعب توقع تبِعات بعضها، ومن يقول بغير هذا ظالم، لكن هناك قرارات أخرى واضحة الغباء منذ أول لحظة.
وقبل العرض لها، أروى واقعة، حضرتُ فى باريس سنة 2010 (فيما أذكر) محاضرة لمسئول كبير فى الاتحاد الأوروبى، لا أتذكر اسمه، وسمعت العجب، قال إن الاتحاد ابتكر منهجًا جديدًا فى العلاقات الدولية وفى المفاوضات، المفاوض «التقليدي» يتفاوض ومعه عصا وجزرة؛ أى يمزج بين التهديد والترغيب، أما المفاوض «الجديد» فهو يأتى ومعه فى يدٍ جزرة صغيرة، وفى جيبه جزرة كبيرة يُخرجها إن لم تفلح الأولى. وأُصبت بحالة ذهول.
فى صيف 1993 قال لى صديق، هو رجل أعمال فرنسي: على فرنسا والغرب الاستعداد لصدمة إدماج الصين فى النظام الاقتصادى العالمى، وسيكون التكيف مع هذا الواقع صعبًا ويتطلب تركيزًا ومجهودًا، فهناك قطاعات بالكامل عاجزة عن منافسة الصينيين.
كيف تعاملت الحكومات الفرنسية مع هذا التحدي؟ من ناحية، انخرطت وغيرها فى مشروع الوحدة الأوروبية والعملة الأوروبية، ومن ناحية أخرى قامت بتعديل تشريعات العمل لتقليل ساعات العمل.
هذه التشريعات كانت ركنًا أساسيًّا فى البرنامج الذى طرحه الحزب الاشتراكى فى انتخابات سنة 1997، ونبه بعض الأصدقاء المنخرطين فى الحزب المسئولين إلى خطورة هذا الوعد، وقيل لهم: لن نفوز بالانتخابات ونريد التقليل من فداحة الهزيمة.
ولكنهم فازوا…
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية