تأملات يائسة مساء اليوم.. أفكارى سوداء
أتصور أن هذا لا يحتاج إلى شرح… أتابع أحوال المنطقة وأحوال أوروبا، وأشاهد عقابًا جماعيًّا لشعوب لا ذنب لها.
عندما أقول: لا ذنب لها، لا أزعم أنها بريئة براءة القديسين، ولا أن مجتمعاتها خالية من الفساد، ولا أن أفكارها سليمة، ولا أن ثقافتها الشعبية والنخبوية على ما يرام. لكن سيئاتها لا تبرر ما يلحق بها أمام عيوننا. ما يلحق بها من كوارث، من قتل وتشريد وتهجير وتدمير، أمر مرعب.
الرفض المشروع أو غير المشروع للواقع – كل حالة تختلف عن غيرها – تحوَّر ليصبح آلة لحرق الأخضر واليابس، وللقتل والتدمير، أفهم رفض الواقع لأننى شخصيًّا لا أحبه، أرفض تحول هذا الرفض إلى جنون لا يستحى. أرفض تحول الرفض إلى كراهية عمياء لا ترتضى غير إسالة الدم.
أعلم أن هناك من يتكلم عن سنن العلاقات الدولية، ويقول إن سمتها الصراع، وأن الحديث عن الأخلاق وعن إنفاذ القانون، وعن الحوار وعن التعاون وعن التعايش السلمى «كلام فاضي» يقوله من له مصلحة فى إبقاء الأمور كما هى.
أعرف أن الصراع سنة من سنن العلاقات الدولية، شأنه شأن التعاون والحوار، لكن الإقرار بهذا أمر، وعبادة الصراع وتأليهه أمر آخر.
نظرية الحرب تعرف أن مسار الحرب الطبيعى هو الصعود إلى ذروة التناقض والقتال والصراع، وإلى التدمير الكامل المتبادل، ولكن النظرية نفسها تفرض على القادة فرملة الصعود إلى الهاوية وإيقافه، وتحديد أهداف سياسية تحقق المصلحة ولا تقتضى التدمير الكامل للعدو وللذات. الحرب تنين يحرق ويلتهم الأرواح، وترويضه صعب ولكنه واجب.
هذه القاعدة ليست مطلقة؛ لأن هناك حروبًا وجودية.
كل ثقافة لها تعريفها لماهية وشروط الحرب الوجودية، ولكنه من الممكن القول إن الصراع الوجودى هو الصراع الذى تنهى فيه الهزيمة الوجود السياسى للدولة المهزومة و/ أو لشعبها، و/ أو تصفيتهم كجماعة إنسانية.
وما يعقّد الأمر أن قياس الخطر – خطر الزوال – يختلف من ثقافة إلى أخرى، ومن قائد إلى آخر، ومن مذهب فكرى إلى آخر، وتلعب فيه الذاكرة والخوف العقلانى واللاعقلانى التصورات عن الآخر والحاجة إلى الأمن وإلى العزة والكرامة دورًا محوريًّا.
وما يعقّد الأمر أيضًا وجود تيارات أو رجال يرون فى تأجيج المخاوف الوجودية العقلانية واللاعقلانية لدى شعبهم أو لدى الشعب الآخر تكتيكًا سياسيًّا ذكيًّا يحقق أغراضًا ما.
التاريخ يعلّمنا أن أغلب المجازر الجماعية تمت على يد جماعات تصورت أنها تواجه خطر الزوال، فاستباحت الذبح الجماعى، ويعلّمنا أيضًا أن عددًا من الشعوب ضحايا المجازر الجماعية تنقلب لتصبح وحوشًا تريد الانتقام وتترك منطق الثأر يتحكم فيها، والغضب يعميها. وقد تنتقم ممن لا ذنب له. الضحية التى تتحول إلى جلاد قصة مكررة ودموية ومُحزنة.
للأسف، الصراع الوجودى ظاهرة لا تختفى، لكن واجب السياسى الحريص على بلاده وعلى شعبه رفضُ الانسياق لدواعيه لا تأجيجه، وقطعًا تأجيجه المتعمد من الكبائر السياسية والأخلاقية.
لا يعنى كلامى هذا تصديقى للكلام التافه – الأوروبى أساسًا – الذى ساد بين 1991 و2014 عن زوال عصر العداوات وبداية عصر ورديّ تسكت فيه المدافع، نسوا الحكمة الرومانية القديمة… حفظ السلام يقتضى الاستعداد للحرب، السلام كنز تؤمّنه الجيوش القوية الحامية للشعب والأرض. لا السذاجة البلهاء، لا التوحش الدموى وعبادة إسالة الدم تصلح، الحرب قد تكون ضرورة، ولكنها ضرورة مرة، والدخول فيها أمر، والخروج منها أمر أصعب بكثير، وقوانين الحرب – أقصد التشريعات الدولية التى تحدد ما هو مسموح وما هو ممنوع – لم توضع ليدَّعى واضعها الفضيلة والأخلاق، ولكنها وُضعت لأنها ضرورية لمنع الإبادة المتبادلة، وعدمُ التزام أطراف كثيرة بها لا يعنى أنها غير ضرورية، بالعكس، لعدم احترامها تبعات كارثية على المديين المتوسط والطويل تؤكد أهميتها ولزومها. وهى تحمى الطرفين، ولا سيما الأضعف.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية