عن استخدام بعض الحجج فى الجدال العام (2)
أواصل مشوارى مع الحجج التى نسمعها كثيرًا فى الجدل العام؛ لأحاول بيان مدى صحتها، وإن صحّت حدود صحتها. ولا أزعم أننى لا أرتكب أخطاء، عندما انخرط فى سجال فكرى أو سياسى أو قانوني.
فى كل مجتمع «كتالوج» لنماذج أو مصطلحات تعظم وتبجل، أو تشيطن وتُحقر، مصطلحات تدغدغ الوعى، تستحضر الماضى العظيم أو الكريه، وهو كتالوج يستسهل الكثيرون من الفُرقاء اللجوء إليه، ويحسنون أو يسيئون استخدامه، وعندما أتكلم عن سوء استخدام، أقصد عدة أمور.
فى أحوال كثيرة، يكون إلصاق وصف يشير إلى ماض حاضر فى الذاكرة الجمعية بفريق أو جماعة أو قوة سياسية، دعوة مبطنة إلى الاحتشاد وراءه أو إلى ممارسة العنف ضده، ويكون مانحًا أو نازعًا للشرعية، مانعًا إثارة موضوعات أو داعيًا إلى الخوض فيها، فلو كان هذا الإلصاق مفتقرًا إلى أســاس متين أو إلى وجاهة حقيقية، و/أو لو كان قياسًا مع الفارق، و/أو لو كان ملغيًا للتفكير وللعقل، داعيًا إلى طاعة عمياء أو إلى سلوك عنيف أو إلى قطيعة حادّة دون مبرر حقيقي، نكون بصدد «سوء» استخدام.
ويؤدى اللجوء الكثيف دون داع إلى مصطلح ما، إلى فقدان هذا المصطلح معناه وتأثيره الإيجابي. أعطى مثالًا أوروبيًّا، تتعدد تعريفات الفاشية، لكن القاسم المشترك لها هو أنها تيارات شديدة اليمينية عابدة للقوة، ولها ميليشيات أو تشكيلات تلجأ إلى العنف ضد الخصوم فى الشارع، إلصاق تهمة الفاشية لأى توجه مفرط فى اليمينية ولكنه لا يعبد القوة،ولا يقوم بتشكيل ميليشيات تمارس العنف فى الشارع أمر استسهله الكثيرون فى أوروبا. والنتيجة أن كلمة الفاشية باتت بلا معنى وفقدت دلالتها وأصبحت سلاحًا للإرهاب الفكري.
طبعًا لا أقصد أنه لا يوجد فصيل لا يستحق هذا الوصف، بل أقصد أن كثرة استخدامه دون داع أفقدته قيمته وقوته ودلالته الرمزية. وطبعًا هناك مصطلحات يراها البعض واصمة، ويعتبرها غيرهم مديحًا – “ليبرالي” مثال جيد لهذا.
يرتبط ما سبق ارتباطًا وثيقًا بظاهرة تصيب كل المجتمعات؛ وهى تدهور اللغة نتيجة إفسادها بالتلاعب بالكلمات وسوء استخدامها.
من ناحية، لا مفر لواقع مفاده أن كلًّا منا يستخدم الألفاظ والمفاهيم بطريقة مختلفة عن استخدام الآخر لها، وتختلف من وضع إلى آخر، لهذا ينصح المشرف على رسالة علمية الطالب بتقديم تعريف محدد للمصطلحات التى يستخدمها والالتزام به.
كل هذا لا يعنى أن أى «استخدام يمشي»، اللغة تسمح بالتواصل وبفهم ما يقوله الغير. ونعيش كلنا يوميًّا مواقف لا يفهم فيها ما يقوله الآخر أو يسيء فهمه، ذلك أن أغلب الألفاظ حمّالة أوجه… تأملْ مثلًا كلمة «حَسن النية»؛ هل تعنى مخلصًا أم تعنى ساذجًا؟ أو تعبير «هذا الكلام غير حقيقي» هل يقصد به أن القائل به مخطئ أم المراد أنه كاذب؟
وفى أحوال كثيرة يسمح تعدد معانى اللفظ نفسه بإرضاء الجميع، أو بحشد أكبر عدد من الأفراد، أو بتأجيل الصراعات.
ولكن، من ناحية أخرى، يتسبب استسهال إلصاق تُهم – وكثرة استخدام الألفاظ بطريقة تفتقر إلى الدقة – فى منع التواصل البنّاء وفى تدنى مستوى الحوار، وفى إفساد اللغة، ومن ثم إفساد الحياة الاجتماعية والسياسية، كما تؤثر سلبًا على المعرفة والفهم والوعي.
وهناك بعض الدراسات تتناول لجوء الأنظمة النازية والشيوعية إلى إفساد متعمَّد للألفاظ واللغة، بتغيير معنى الألفاظ؛ لبسط نفوذهم وسطوتهم على عقول، ولأغراض سياسية أخرى، وانتبه بعض الأدباء لهذا. ففى لغة هذه الأنظمة، يصبح التضليل توعية، والتوعية تضليلًا، والشمولية تصبح قمة الديمقراطية، وتشجيع الإبلاغ عن الأقارب يكون تقوية للأسرة، والعدوان يصبح دفاعًا عن النفس، الهزيمة نصر من نوع جديد. المجازر تكون «إعادة ونشر السلام وتأمينًا محمودًا»… إلخ.
وكما أسلفنا، فإن إفساد اللغة ليس ظاهرة مقصورة على الدول الشمولية.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية