عن كتابة التاريخ واستخداماته
بعض الزملاء من علماء وخبراء السياسة يكتبون ويقولون إن دراسة التاريخ لا تهمّ ولا تساعد على فهم الحاضر إلا نادرًا، وبعض آخر لا يكتب أى دراسة دون أن يتبرع بسرد مطوَّل للتاريخ وبتحليل له قد يوفق فيه أو لا. رأيت كتبًا عن العلاقة بين مصر وبلد أخرى بها مئات من الصفحات عن الأصول التاريخية للعلاقة منذ أيام الفراعنة، وأغلبها لا يقدم ولا يؤخر عندما يكون فهم الحاضر وشرحه الهدف المراد. أقولها، رغم تشديدى الدائم على أهمية دراسة التاريخ، واعتماد محاضراتى فى النظرية السياسية وفى العلاقات الدولية عليه وعلى أعمال المؤرخين العظام.
ردود فعلى العصبية على كل من الموقفين دفعتنى إلى محاولة تحديد موقف سليم وإلى عدم الاكتفاء برفض مواقف أخرى.
الأصل أن المؤرخ يكتب لشرح الماضي، يقوم بدراسة أعمال أسلافه من المؤرخين، وبقراءة أولية للمادة، وبصياغة أسئلة قد تختلف عن أسئلة السلف، وقد لا تختلف، لكن المؤرخ يرى أن رد الأسلاف عليها لم يكن موفقًا. وأثناء البحث قد تعاد صياغة الأسئلة. وعلينا أن نعى أن التوجهات الفكرية والأيديولوجية للمؤرخ تلعب دورًا فى اختيار الموضوع وفى صياغة الأسئلة، ولا يمكن تعميم أى تقييم لهذا الوضع، يكون أحيانًا إيجابيًّا، وأحيانًا سلبيًّا، ومن المفروض ألا تلعب تلك التوجهات دورًا فى صياغة الإجابات، فصياغة السرد والتحليل تخضع لضوابط وقواعد ومعايير، ولكن المفروض أمر، والواقع أمر آخر.
والمهارة والموهبة فى طرح الأسئلة وصياغة الأجوبة وكتابة التاريخ تتوقفان على مدى إلمام وفهم المؤرخ لأصول ومناهج الكتابة – هذا معروف، وعلى ثقافته. التاريخ ثقافة قبل أن يكون علمًا. الثقافة تسمح لك بربط أمور تبدو للفرد العادى منفصلة، وفهم للعصر موضوع الدراسة، وتحصن ضد فخ الخلاصات المتسرعة، وضد الثنائيات السطحية أو الجذابة، وتعين على فهم تعقيدات النفس البشرية والحياة المجتمعية. باختصارٍ، هى تعمق نظرتنا للأمور. أضيف بسرعة أنه وسط العلوم الإنسانية والاجتماعية والسياسية يعرف مئات من المثقفين المتمتعين بثقافة رفيعة، ويمكن رغم ذلك اعتبارهم من المغفلين. فالثقافة لا تحصن ضد الغباء.
تكلمت عن ضوابط وقواعد ومعايير تحكم الكتابة والتحليل، وأقول، دون تفصيل، إن هذه القواعد والضوابط والمعايير، ومعها مفهوما العقلانية والموضوعية، تتغير مع العصور، ومع تغير تصورات المجتمع والجماعة العلمية عن الطبيعة البشرية وعن العلاقات بين البشر وعن غايات السياسة وعن أسلوب الحياة الذى يرتقى بالإنسان – لا يعنى هذا أن لا قيمة للضوابط، وأن “أى حاجة تمشي”، ولا أن هذا التطور أو التغير للأحسن أو للأسوأ.
يرى بعض علماء وخبراء السياسة والفلاسفة أن متابعة ما يحدث فى مجال دراسة التاريخ ليست ضرورية، ويرى غيرهم أن دراسته تسمح باستخلاص دروس تفيد فى عملية اتخاذ القرار، وفى رسم الخطط، وفى إنشاء المؤسسات وتحديد مهامّها، وفى استشراف المستقبل. ومن ناحية أخرى يرى الكثير من الفاعلين أن للتاريخ وظائف؛ وهى تحديد الهوية وزرع قيم حب الوطن وخدمته، وتغذية الذاكرة أو ترشيدها.
موقفى الشخصى هو الجمع بين المناداة بضرورة دراسة التاريخ، ودراسته لنفسه والتوسع فيها، والإيمان بفوائد توظيفه فى كل ما سبق، والتحذير من سوء استخدامه، إما لعدم فهمه، أو لوجود سوء نية أو ضيق أفق دافع إلى الانتقائية أو التزييف أم للجوء إلى قياس لا يصح،
أستطيع أن أكتب كتبًا تروى أمثلة لتأثير فهم التاريخ على القرار والتخطيط، وتأثير الجهل به عليهما. أكتفى هنا بذكر مثال يعرفه المؤرخون العسكريون ويصور التعقيدات… الكثيرون من قادة الجيوش يقعون فى خطأ جسيم عندما يستعدون لحروب مستقبلية، فيتصورون أن الحرب التالية ستشبه آخر حرب خاضوها، وأن خطط العدو ستكون مماثلة للخطط التى رسمها ونفّذها قبل ذلك. هنا عبر التاريخ هي… ضرورة معرفة تاريخ حروبك وضرورة عدم تركه يقيدك.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية