قراءات مختلفة فى المشهد الأوروبى
قبل أن أعود، فى حلقات تالية، إلى تحليل الدكتور برونو ترتريه عن المشهد الدولى و«عودة الجغرافية السياسية» وصراع الكبار، أودُّ أن أتوقف قليلًا أمام المشهد الأوروبى.
فى مقاربة أولى أذكر خطاب الإعلام… والنُّخب الأوروبيين… تجدهم يقولون… لقد تصورنا أن أضرار الحروب دفعت الكل إلى تفاديها، وأن فوائد السلام والتجارة واضحة بيّنة أمام الجميع، ونحن أقوياء جدًّا، وأهمية سُوقنا تتيح لنا القدرة على سن تشريعات يلتزم بها كل من يريد أن يتعامل معنا. وكان لدينا ما يعاقب أى شرير… العقوبات الاقتصادية… وأهملنا الإنفاق على الدفاع معتمدين على هذا التحليل وعلى الأمريكيين، لكننا لم ننتبه إلى وجود أشرار عدوانيين، يهددوننا لأنهم لا يحبّون قيمنا ونموذجنا الحضارى الراقى. ما علينا، سنعيد تسليح أنفسنا لنؤمّن حدودنا، وأثبتت محنة أوكرانيا أننا قادرون على التصدى للتحديات وعلى العمل الجماعى القوى الحاسم.
هذا الخطاب ليس خاطئًا أو مجردًا من أى أساس له على أرض الواقع، لكنه تبسيطيّ تبسيطًا يمنع التحليل. على الورق، أوروبا ما زالت قوة اقتصادية كبرى، لكنها تراجعت فى العقد الماضى، مقارنة بالولايات المتحدة، وهى متأخرة جدًّا فيما يتعلق بالثورة الرقمية وفى مجال المعلومات وفى عدد من التكنولوجيات الإستراتيجية، وليس فقط فى الاستعدادات العسكرية، كما أنها تعانى اختلالات فى التركيبة العمرية للسكان، مع ضعف معدلات الإنجاب، وأثبتت التجربة أن العملة الواحدة – اليورو – تفيد اقتصادات بعض الدول وتضرّ غيرها. أى أن أوروبا بذلت مجهودًا ضخمًا طوال التسعينيات من القرن الماضى، وحشدت ووظفت مهارات كوادرها لإنجاح مشروع جبار، ولكن ضرره الاقتصادى أكبر من نفعه السياسى. والطريف أن أشد الأطراف تمسكًا بالمشروع – فرنسا – هو من الأطراف التى تضررت منه.
وملف الطاقة ملف آخر أظهرت فيه أوروبا قدرات غريبة على كل الطريق، وعلى اتباع سياسات افتقرت إلى الحد الأدنى من الحصافة، فهى جمعت بين الاعتماد على مصدر رئيس، رغم وضوح نواياه وسلوكه العدوانيين – روسيا، وإضافة إلى ذلك اتجهت أوروبا بنفسها ودون أى سبب وجيه إلى الاستغناء عن الطاقة النووية، ومرَّ وقت طويل قبل أن تدرك فداحة الخطأ الذى ارتكبته.
أوروبا تملك عددًا كبيرًا من الأوراق والمهارات، لكنها تبدو كالمرأة الغنية العجوز المقيمة فى حى كله شباب عفيّ نشيط، منهم عدد لا بأس به يطمع فى ثرواتها، ويمارس الابتزاز، ومنهم من يريد أن ينتقم منها ومن ماضيها الاستعمارى، ومنهم لا يتردد فى الاعتداء عليها، وحاميها يُظهر بين الحين والآخر امتعاضًا من نصائحها ومواعظها وانتقاداتها لسلوكه، ومن عجزها عن الدفاع عن نفسها، ويطلب زيادة فى راتبه.
ولكن مشكلة أوروبا ليست فى القدرات المادية والفكرية، على سبيل المثال، لأبنائها مساهمات كبيرة فى الاختراعات، وفى التطورات التكنولوجية، وفى البحث العلمى، لكن دول القارة لا تنجح إلا نادرًا فى الانتقال من مرحلة الاختراع إلى مرحلة المشروع الصناعى المستغل له.
هناك مشكلات حالة؛ أهمُّها، اليوم، ضعف أوروبا العسكرى، وهى مشكلة لا حل سريعًا لها، فالجندية روح وحالة نفسية وذهنية لا تُصنَع فى يوم، والمهارات العملياتية والتكتيكية لا يتم استردادها بسرعة، وإقامة المصانع الحربية يفترض استثمارات ووجود عمالة مدرَّبة لا يمكن توفيرها بجرّة قلم.
وهناك مشكلات تتعلق بوعى القادة والمجتمعات، أثبتوا عجزًا صارخًا عن التمييز بين الصديق والعدو، وبين الشريك واللص، يتصور القادة أن الشعوب الأوروبية لم تعد قادرة ولا راغبة فى تحمل الصعاب والتقدم بالتضحيات الضرورية لإعادة بناء جيوش وللدفاع عن الأوطان، هل هذا حقيقي؟ لا أحد يعلم. القادة الأوروبيون – ولا سيما الألمان – عاشوا عقودًا متصورين أن تكثيف التبادل التجارى والاعتماد المتبادل، من شأنهما تذويب أى عداوة… وثبتت سذاجة هذا، وهناك تساؤلات حول قدرات فئات المجتمع على تجاوز الاستقطاب الكبير الذى يمزق النسيج المجتمعى.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية