العلوم الاجتماعية «المفيدة»
العلاقة بين العلم والممارسة، أو العلم والعمل، أو بين النظرى والعملي، أو بين العلم والسلطة أيًّا كانت، علاقة فى غاية التعقيد – على الأقل فيما يخص العلوم الإنسانية والاجتماعية، هناك من يرى وجوب الفصل التام بين المعرفة والبحث العلمى من ناحية، وبين السلطة والعمل السياسى والممارسة من ناحية أخرى، وفى المقابل قال ماركس إن المعرفة – التى وفّرتها الفلسفة – يجب أن توظَّف لتغيير العالم، وقال فوكو إن الفصل بين العلم والسلطة كعلاقة اجتماعية بين آمر ومأمور أمر مستحيل،
وتفهم فِرق من الأكاديميين دور العلم على أنه «نقد» ضرورى وكاشف لما يُخفيه الفاعلون بقصد أو دون قصد، وسامح بفضح أكاذيبهم وبالتعرف على حقيقة قواعد اللعبة السياسية والعلاقات الاجتماعية، وترى فِرق أخرى أن العلم من شأنه ومن واجبه توفير معارف ومعلومات وأدوات للسلطة تُعينها فى عملية اتخاذ القرار وفى رسم السياسات وتسهم فى ترشيدها.
وينال كل فريق من الاتهامات ما يناله، هذا فى برج عاجيّ متعال، وذاك عميل للسلطة وباحث عن مناصب، وثالث يلعب دورًا تخريبيًا، أو يدعو إلى الفتنة.
ما يخطر على البال هو أن الفرق الثلاثة موجودة فى أى جماعة علمية، وأن هذا الوجود ضروي، لكننى أتصور – على ضوء ما شاهدته فى مشوارى المهنى – أن العلاقات بينها ليست على ما يرام، وأن هذا يؤثر بالسلب على كفاءة المؤسسات الأكاديمية.
هناك من يمضى مشواره المهنى فى «خانة» واحدة، وهناك من ينتقل من خانة إلى غيرها، إن وصلت القوة السياسية التى ينتمى إليها إلى الحكم مثلًا، وهناك من هو قادر على التواجد فى خانتين فى الوقت نفسه. هناك من يستطيع إقامة فصل واضح بين قناعاته السياسية وعمله العلمى والجامعي، وهناك من يعجز عن هذا أو لا يريده.
عندما أقول: فصل واضح، لا أقول بعدم وجود أى تأثير للقناعات، فهى تلعب دورًا مهمًّا فى اختيار مجال التخصص، ومنهج التحليل، الفصل الواضح معناه الالتزام بمنطق العلم عندما يمارس الأكاديمى مهنته، وبمنطق السياسة عندما ينخرط فى العمل السياسي. وكثيرًا ما يتعارض المنطقان. قد يجد باحث أن التعامل مع مشكلةٍ ما وحلّها يقتضيان أمورًا وقرارات ومقاربات هى سياسيًّا مستحيلة.
هناك فى بعض الدوائر فى عدد من الدول ميل قوى إلى احتقار فريق البرج العاجي، باعتبارهم «غير مفيدين»، قد يختلط هذا الاحتقار برضا بوجودهم لأنهم لا يشكلون خطرًا. لكن هذا التشخيص على شيوعه خطأ وخطر، وينم عن عدم فهم لآليات العمل العلمى والفكرى وللعلاقة بين النظرى والعلمي.
العلاقة بين النظرى والتطبيقى تختلف مع اختلاف التخصص، ومن مرحلة تاريخية إلى أخرى، ففى بعض المجالات تكون موازين القوة، إن جاز التعبير، فى صالح النظري، ولا تكون كذلك فى تخصصات أخرى، وفى كل الأحوال يكون النظرى ضروريًّا لفهم كيفية صياغة الأسئلة المطروحة، والفرضيات قيد الاختبار، وحدود فهم كل منا ورؤيته.
فى كل فريق من الفرق الثلاثة المذكورة من يسيء إلى سُمعة فريقه، وقد يكون هؤلاء أغلبية، نعم هناك كلام نظرى فارغ، ونعم هناك من يهتم بالتقرب من السلطة أيًّا كان الثمن، ونعم هناك مَن له دور تخريبي، ونعم أميل إلى التشاؤم وإلى اعتقاد مَفاده أن الفكرة الرديئة التافهة تنتصر كثيرًا على الفكرة الجيدة العميقة وتطردها من الساحة.
ويلاحَظ أن الأستاذ الدكتور يتمتع بسلطة كبيرة فى منح شهادات الماجستير والدكتوراه، ولا توجد وسيلة لترشيد هذه السلطة، إلى جانب استحالة توقع مسار الباحث الشاب والتنبؤ بتطور عطائه.
لكن علينا إدراك ما يلي… لم تتوصل أى سلطة جامعية أم غير جامعية فى أى مكان بالعالم إلى وسيلة تتيح الغربلة أو التخلص من العناصر الفاسدة المسيئة، دون أن تتسبب فى تدهور حادّ بكفاءة المنظومة.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية