خواطر مشتتة حول أحداث العالم
لا أودُّ، هذا الأسبوع، الخوض فى مسألة تأصيل تطورات المشهد الدولي؛ لأننى لم أستطع الجمع بين القراءة النظرية والمتابعة المدققة، وأكتفى معتذرًا للقراء بعرض بعض انطباعاتي.
فيما يتعلق بالغزو الروسى لأوكرانيا، يبدو أن الكل وصل إلى خلاصة مفادها أن الحسم العسكرى لن يحدث هذه السنة، وأن الوضع بات شبيهًا بالموقف أثناء الحرب العالمية الأولى؛ أى أن هناك خطوط جبهة لا تتحرك كثيرًا، ومعارك تُكلف عشرات الآلاف من الأرواح ولا تحقق إلا أقل القليل، ولستُ متأكدًا من أن هذا الإجماع على استحالة الحسم مبرّر؛ نظرًا للنقص الحادّ فى الأسلحة الذى تعانى منه أوكرانيا، وأيًّا كان الأمر فإن المراقبين يتساءلون الآن عن مدى صلابة الجبهات الداخلية المختلفة… الروسية والأوكرانية والغربية. ومن المعروف أن الحرب العالمية الأولى شاهدت انهيار الجبهة الداخلية الروسية، ثم الألمانية.
ويلاحَظ أن الجبهة الروسية ليست بالمتانة التى تزعمها الدعاية الروسية، ولكن تفاقم المشكلات لا يعنى حتمية انهيار. كما يلاحَظ أن روسيا تُظهر قدرًا كبيرًا من البراعة فى عمليات تحاول إضعاف العزيمة الغربية، ولكن يبدو أن الغرب فى طريقه إلى “هضم” وتجاوز، ولو مؤقتين، لخيبة الأمل التى تسبَّب فيها فشل الهجوم المضادّ الأوكراني.
الولايات المتحدة.. المستقبل فى علم الغيب، ولستُ من خبراء الشأن الأمريكي، لكن الكثيرين يرون أن عودة الرئيس ترامب إلى البيت الأبيض وارد جدًّا، وأحاول – دون التفرغ الكامل لدراسة السيناريوهات – أن أتصور تبِعات هذا على النظام العالمى وعلى الصراعات الحالية والمحتملة… ما مصير خيار حل الدولتين إن جاء رئيس أمريكى متعاطف مع اليمين الإسرائيلي… ما مصير أوكرانيا وجمهوريات البلطيق ومولدافيا إنْ توقّف أو قلَّ الدعم الأمريكي… هل الخطاب الانعزالى الأمريكى سيشجع أطرافًا كثيرة على اللجوء إلى القوة الغاشمة لتحقيق أغراضها؟ هل سيفكر أحد فى استخدام السلاح النووى مراهنًا على سلبية أمريكية أو متأكدًا منها؟
أعرف المثال المصرى “حاميها حراميها”… وأعرف أن شُرطيّ العالم، أيًّا كان، يتعسف بل يفترى فى استغلال وضعه ضامنًا للاستقرار… ومنطقتنا أكثر مَن دفع ثمن أخطاء السياسة الأمريكية… ولكن… هل العالم جاهز لغياب كامل لشرطي؟
دفعتنى الأحداث وبعض الطلبات إلى دراسة سريعة للأوضاع الداخلية – الاجتماعية والاقتصادية – فى كل من ألمانيا والمملكة المتحدة وفرنسا. وهالنى ما رأيت. التدهور سريع، والأزمة عميقة… معدلات إنجاب ضعيفة جدًّا… تراجع قيم وآليات العدالة الاجتماعية… حالة طلاق غير ودى بين النُّخب وقطاعات شعبية… أزمة إسكان حادة… أزمة طاقة… أزمة تعليم… ارتفاع معدلات العنف فى الحياة اليومية… أعلم أن مثل هذه الأزمات قد تُجبر المجتمعات على التنبه وعلى النهضة وقبول الأدوية المُرّة والإقدام على مراجعات. لكن المؤشرات غير مشجِّعة. وبصفة عامة لا أرى فاعلًا هامًّا على الساحة الدولية لا يعانى مشكلات داخلية جسيمة، فى بعض الحالات هذه المشكلات تشلُّ وتمنع الانطلاق، وفى حالات أخرى تدفع المشكلات بعض الأطراف إلى الهروب للأمام.
وحاولتُ أن أتابع المشهد الفرنسى تحديدًا… رئيس وزارة جديد، ومشكلة قديمة… الحكومة لا تتمتع بأغلبية فى مجلس الأمة، والرئيس لا يريد أن يتحالف مع اليمين ولا مع اليسار؛ لأنه يريد الاحتفاظ بحُرّية حركة… يتفق مع اليمين لتمرير قانون، ومع اليسار لسنّ تشريع… وربما يرى فعلًا أن اليمين على حق فى ملفات، واليسار على حق فى ملفات أخرى… قد أفهم هذا المنطق… لكن الرئيس يصرّ على قول شيء وعكسه، وعلى تصور يرى أن الجمع بين أمر ونقيضه ممكن… وعلى عدم تسمية الأشياء بمسمياتها… وسواء أقال شيئًا أم عكْسه فإنه يبدو دائمًا غير صادق غير جدير بالثقة، والأسوأ من كل هذا أمران… من ناحيةٍ التخبط والاستعجال الدائمين… ومن ناحية أخرى فإن المنافسين الآخرين يُعطون انطباعًا بأنهم أسوأ منه بكثير.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية