أفكار مشتتة متشائمة
العالم لم يكن جاهزا لا للعولمة ولا للثورة التكنولوجية. لا أقصد أنها كانت كلها شرًا فهى فى الواقع جاءت بالحلو الجميل وبالمر القاسى. وهى على سبيل المثال ساعدت مئات الملايين من البشر على الخروج من دائرة الفقر والجهل والمرض، ولكن التفاعلات التى دشنتها فى العلاقات الدولية وفى كل المجتمعات أعادت رسم الخرائط بالكامل – الخرائط السياسية والاجتماعية والاقتصادية وتسببت فى إعادة تشكيل العلاقات بين كل دولة وشعبها.
والغرب لم يكن جاهزا للهيمنة الأحادية المطلقة على النظام العالم، ولم يكن أساسا جاهزا لزلزال انهيار الشيوعية، وأعمته نشوة الانتصار، وعقدة التفوق، ورغبة أغلب دور أوروبا الشرقية فى الانضمام إليه، وإنجازات شركاته الرأسمالية الكبرى، المساهمة فى نهضة الصين والمستفيدة منها.
وتأرجح بين رؤية عالم تتبنى قراءة فوكوياما وأخرى أقرب إلى هانتجتون، مع تفضيل الأولى التى ترى أن التاريخ حسم نهائيا قضية الصيغة السياسية الاقتصادية المثلى، وهى الجامعة بين ديمقراطية تمثيلية وليبرالية اقتصادية لا تقيدها معوقات إلا على سبيل الاستثناء، وقدر «الغرب الجماعى» أن خير الجميع يقتضى حث الكل على تبنيها مع اللجوء إلى أدوات ضغط متعددة.
وفى نفس الوقت كان هناك فى الغرب نفسه من يعترض على هذه القراءة وهذا المنهج ويؤمن بصراع الحضارات أو على الأقل بخصوصية كل بلد وبأهمية قضايا الهوية وبخطر الأجندة الاقتصادية للعولمة الرأسمالية الكارهة لسيادة الدولة الوطنية على تماسك كل المجتمعات بما فيها الغربية.
ولعبت التطورات التكنولوجية دورا كبيرا فى هز كل الثوابت، وفى إضعاف حدود الدول والسيادة الوطنية، وفى الوقت ذاته منحت هذه التطورات للدول وسائل كبيرة للرقابة والقمع وللتدخل فى شؤون الغير، كما منحت كل المجموعات الصغيرة منها والكبيرة أدوات لبث رسائلها الصادقة والكاذبة، ولحشد أنصار… وأخيرا منحت لعدد صغير من الشركات نفوذا هائلا نابعا من تجميعها وتخزينها لكم لا نهاية له من المعلومات.
كما أثرت هذه التطورات على الصراعات، وفى مقرطة السلاح والقدرة على التدمير، فهناك الآن تكنولوجيا فتاكة ورخيصة، تسمح لعدد كبير من الفرقاء – دول وميليشيات ومجموعات إرهابية- من اللجوء إلى العنف البالغ.
وفى مقاربته لهذه المستجدات تميز الأداء الغربى برعونة وقصر نظر مريعين، وسادت فى أوساط نخبه حالة نفسية وذهنية وفكرية أعجز عن وصفها، مزيج من عبادة الذات ومن كراهيتها فى آن واحد، وكان الغرب متهورا عندما كان الحرص ضروريا، وجبانا ومترددا فى الملفات المتطلبة لحسم، ثوريا فى الأمور التى تتطلب روحا محافظة ومحافظا فى الأمور التى تستوجب فكرا تقدميا، عاجزا عن التمييز بين الواقع والأحلام، بين الحقائق على الأرض والسراب، بين أدوات البناء ووسائل التدمير، بين الأصدقاء والأعداء، بين الممكن والمستحيل.
الوضع كان جديدا ومعقدا، والنقد قطعا أسهل من النصيحة البناءة، وأوضحت التجربة التاريخية أن خيارات بدت لى وجيهة منذ عشرين سنة هى فى الواقع كارثية، وأن هناك ملفات كثيرة تكون فيها أحلى الخيارات مر. ولكننى مذهول من عدد الأخطاء الكارثية التى لا يمكن التماس العذر لها. منها غزو العراق، والعملية العسكرية فى ليبيا، ومنها ترك عدة مشكلات لتتفاقم تفاقما بات يهدد الجميع، ومنها عدم الانتباه إلى مطامع وسلوكيات بعض اللاعبين، ولا إلى مخاطر انهيار قطاعات صناعية كبيرة انهيارا كاملا، وتبعات هذا الانهيار على النسيج الداخلي، والتدخل الدائم والسليط فى شؤون الدول الصديقة، وإهمال شؤون الأمن والدفاع والمجمع الصناعى العسكري، وتدهور التغطية الإعلامية الغربية لأحداث العالم وتراجع مستوى الجامعات ومراكز المعرفة مما يؤثر على أداء النخب…
لا أقصد أن الغرب مسؤول عن كل مصائب العالم ولا عن كل كوارث منطقتنا، هذا أبعد ما يكون عن رأيي، أقصد فقط أنه المسؤول عن أزمته هو، وأن العالم ليس جاهزا لعالم ما بعد الهيمنة الغربية.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية