عن العنف وعن مدركات الفاعلين
فى المقالات السابقة حاولت أن ألخص أعمال المؤرخين الذين درسوا بعض المراحل التى شاهدت عنفًا مجنونًا، القرن العشرين الأوروبى والحربين العالميتين، الحروب الدينية الأوروبية فى القرن السادس عشر، والعنف الثورى فى فرنسا وفى الإمبراطورية الروسية، واستفدتُ أيضًا من حواراتى مع قامة مصرية متخصصة فى الشئون الأفريقية.
وخلصت إلى أن القاسم المشترك هو الخوف والقلق الجماعى العميق على بقاء الجماعة ومن زوالها، وقطعًا هناك عوامل أخرى تلعب دورًا، منها رفض كل الفاعلين الحلول الوسطى أو استحالة التوصل إليها، رغم رغبات الجميع؛ لأن موضوع الخصومة ليس من الموضوعات التى يمكن التفاوض حولها، وعرجت إلى دور الدولة الحديثة فى القضاء على العنف المجتمعى فى داخل البلاد، أو على خفض سقفه وفى إيجاد وسائل أخرى لإدارة الصراع بين مكونات الداخل أو حلّه أو تحييده.
القلق الوجودى قد يكون حافزًا للإجادة، ولكنه ليس دائمًا كذلك، وفى أغلب الأحوال يكون مانعًا للإجادة، نعم له بعض المميزات- يسهل الحشد ويقوى العزيمة وينبه الشعب إلى ضرورة وأهمية التماسك الداخلى ومنع الفوضى وتبنّى سياسات طويلة الأجل، وعيوبه التسرع فى شيطنة المختلف والغير، مما يخلق جوًّا خانقًا مانعًا للتعبير وللتفكير وللفهم ومعاديًا لهم، وعلى عكس المراد يتسبب فى إضعاف الثوابت؛ لأنه يصورها كمبرر لأنواع من القمع الأُسرى والمجتمعى والسياسى ضررها أكبر بكثير من نفعها.
ويسهل هذا القلق الوجودى الانتقال للعنف العشوائي، ويصعب عمليات مراجعة الذات والتعامل مع التغيير، لا أقول إنه يعادى التغيير؛ لأن الأمور أكثر تعقيدًا، هو يعادى الاعتراف بالتغيير والتفكير فى تبعاته؛ أى أنه يتسبب فى مقاربة لا ترى إلا خيارين… تحكم كامل فى التغيير وتأطيره، وتحديد صارم لحدوده ولدوره… أو تجاهل تام له يؤدى إلى… فوضى.
والقلق الوجودى يفرض تعميمًا مُرضيًا لسؤال الهوية والحفاظ عليها. نعم السؤال مشروع ومهم، ولا سيما فى عالم اليوم، لكن تعميمه يؤدى إلى سطحية فى المقاربة لا تخدمه.
أُشدّد على الدور الكارثى لنظريات المؤامرة السائدة فى قطاعات كبيرة من كل المجتمعات التى أعرفها، فهذه النظريات تعمق الخوف وتجذره، وبالتالى تزيد من احتمال انفجار عنف عشوائي، فهى نظريات تصور الجماعة وكأنها مُحاطة بأعداء ينسقون معًا للقضاء عليها، أعداء لهم ذكاء خارق ولا أخلاق لهم وقادرون على رسم خطط طويلة الأمد لتدمير أعدائهم ويعملون فى الخفاء والسرية.
هذه النظريات مانعة لفهم وإدارة السياسة الخارجية، وتبث- قاصدة هذا أم لا- ثنائية إما الاستسلام واليأس، وإما الانغلاق المطلق و/ أو العنف البالغ، وميلًا إلى تعريف بعض الصراعات على أنها وجودية، وهى تعفى النخب والشعب من مسئولية أى فشل، ومن واجب مراجعة النفس والتفكير فى تحسين الأداء.
أودّ أن أكون واضحًا- الدولة والمجتمع يواجهان تحديات وتهديدات جسيمة، وهناك عدة جهات تسعى إلى التدخل فى الشأن الداخلي، والسرية موجودة، والخطط غير المعلَنة موجودة، وهى جزء من عمل أى دولة. وهناك حروب إعلامية، والكذب منتشر؛ شأنه شأن الكيل بمكيالين وأمور أخرى. ونعم، هناك قادة ودول مالكون لعدة أدوات قادرون على شن حملة منظّمة على عدة جبهات ضد أى هدف.
لكن التصور الذى يرى أن مصر، حكومة وشعبًا، من الجبابرة، وأن الرغبة فى إزالتها من الخريطة، أو على الأقل تعجيزها، تحكم أو توجه سياسات كل الفاعلين، وأن كل عرض تعاون يخفى فخًّا، وأن كل قرار لأى فاعل يضر بنا هو قرار قصد هذا وتعمُّده… هذا التصور كلام فارغ، قد يعين على صيانة أمن المجتمع وعلى التصدى لسياسات عدائية، ولكنه أيضًا مانع لاستغلال الفرص ولبناء نوع من الثقة فى شركاء تكون ضرورية، شأنها شأن نقيضها؛ وهو الشك.
وبصفة عامة، أتصور أن ثقافة الخوف هى أكبر عائق يقف أمام نهضة مصر.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية