دارت عجلة القتل
انفجر الوضع فى الشرق الأوسط، بينما كنت غارقًا فى قراءة كتب عن التصورات والرؤى النازية، والتى سمحت لشعب متحضر هو الشعب الألمانى بارتكاب مذابح لم ترحم شيخًا ولا طفلًا ولا امرأة، كتب تحاول أن تفهم كيف تحوَّل أفراد عاديون لم يرتكب أغلبهم أية جُنحة فى الماضى إلى قتلة أطفال، بسرعة مذهلة ودون أى تدرج ودون أى رادع من الضمير أو الأخلاق أو الدين.
ولا يمكن تفسير هذا بالخوف من الرؤساء، أو بجو من القمع الشمولي. قال القادة، وهم يصدرون التعليمات بإبادة مجموعات عِرقية بالكامل… نعلم أننا نطالبكم بارتكاب جرائم بشعة، ولكنها ضرورية، ولكننا لن نحاسب ولن نحاكم مَن يرفض الاشتراك فى عمليات الإبادة، فلكل منكم حرية عدم الاشتراك.
ورغم هذا لم “يتخلف” إلا أعداد ضئيلة من الناس، ولا يمكن نسب انهيار الضمير واستحلال المجازر إلى الجهل، فالشعب الألمانى متعلم، وكان عدد الحاصلين على درجة الدكتوراه الذين اشتركوا فى القتل مذهلًا.
تفسير إمكانية البربرية والتوحش والانخراط فى ارتكاب أبشع الجرائم، واستحلال كل هذا، يقوم على تحليل منظومة الرؤى والأفكار والمشاعر التى سادت فى ألمانيا، والتى سبقت ظهور الحزب النازي، الذى أجاد استغلال وتغذية بعض مكوناتها، وتهدئة البعض الآخر، على نحو سأحاول إجماله هنا.
تلك المنظومة نشأت فى الحرب العالمية الأولى – ومن المعروف أن لأى حرب تأثيرًا على علاقة الجنود بالعنف والقتل وتدعم مجريات الحرب وإدارة معنويات الجنود وتصوير العدو على أنه ليس بشرًا بل هو حيوان أو شيطان. ولكن الحرب حوّلت جنود دول أخرى إلى مُحبّين للسلام متمسكين به، حتى لو اقتضى تفريطًا مهينًا، فى حين أن الحالة الألمانية مختلفة.
الحرب الأولى فهمها الجمهور والجنود الألمان على أنها حرب ألمانيا ضد تحالف دولى يحاصرها ويحاول تدمير الإمبراطورية الألمانية وإنهاء وجود الشعب الألماني، ولعب طول أمد الحرب والوضع الجغرافى لألمانيا الذى يجبرها على خوض الحرب على عدة جبهات – شرقية ضد روسيا، وغربية ضد فرنسا والمملكة المتحدة، وانضم إليهما الولايات المتحدة. وزرع هذا الفهم قلقًا وجوديًّا – الخوف العميق من اختفاء الدولة الألمانية ومن إنهاء وجود شعبها.
ويلاحَظ أن ألمانيا استسلمت واعترفت بالهزيمة، بعد أن انهار اقتصادها، ولم يكن هناك أى جندى أجنبى على أى شبر من أرضها عندما استسلمت، وهذا الوضع سمح بترويج أكذوبة كبرى – طعنة خنجر آتية من طابور خامس فى الجبهة الداخلية… الرأسماليين اليهود.
تعاملت النازية مع الخوف والإحساس بالحصار والرغبة فى الثأر، نعرف كلنا أنها أيديولوجية عنصرية تقيم تراتبية للأجناس على قمتها الجنس الآري، وتتيح لهذا الجنس الحق فى الاستيلاء على أراضى الغير واستعباد أو إبادة الأجناس الأخرى. لكننا لا نعرف كيف تفاعلت هذه الأيديولوجية المجنونة مع المنظومة الفكرية والشعورية السائدة لتحوّل عددًا كبيرًا من الأفراد العاديين إلى قتلة لا يرحمون النساء ولا الأطفال.
غذّت النازية مفهوم الصراع الوجودى بين الأجناس، صراع قائم على منطق “إما نحن وإما هم”، واستغلت كل حادث لتقويته والترويج له، وقرأت كل الواقع على ضوئه. قيل للجنود الألمان إن قصف مُدنهم لم يميز بين الجنود والشيوخ والنساء والأطفال، وأنه دليل على رغبة الأجناس السفلى فى إبادة الجنس الراقي، وأن المعاملة بالمِثل واجبة، ومن ثم فإن قتل الأطفال والنساء من كل الأجناس الأخرى حلال… إجراء وقائى ودفاعى وضروري. وقليلون انتبهوا إلى قلب الوقائع الذى يقيمه هذا التصور.
الحربان ضد بولندا وفرنسا كانتا للانتقام لهزيمة 1918، وكان تعمُّد الإهانة والإذلال واضحًا فى تنظيم مراسم الاستسلام، وهناك ملايين من الأفعال الدالة على الرغبة فى الثأر.
وتقدمت النازية بمشروع مجنون تعامل مع الخوف والقلق الألمانيين وأزالهما، وعد ببناء إمبراطورية ألمانية توسع الرقعة المتاحة وتطرد الشعوب الأخرى من الأراضى التى تم الاستيلاء عليها أو تُبيدها.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية