كيسنجر
تُوفى كيسنجر. الرجل كان أكاديميًّا مرموقًا وأشهر وزير خارجية فيما بعد الحرب العالمية الثانية، ولا أتصور إمكان التخصص فى العلاقات الدولية دون قراءة متعمقة لكتبه ومذكراته، ودراسة سيرته. أعرف أن الوثائق أثبتت فيما بعد أن مذكراته ليست دائمًا صادقة، ولكن هذا لا ينفى كونها من أهم الشهادات على أحداث النصف الثانى من القرن العشرين.
هو يهودى ألمانى من مواليد 1923، وعائلته فرّت سنة 1938 وهاجرت إلى الولايات المتحدة ولم يكن هاينز (أمرك اسمه لاحقًا) متقنًا للإنجليزية، وتعلَّمها هناك، وخدم فى الجيش الأمريكى أثناء الحرب العالمية الثانية، ثم التحق بالجامعة وتخصص فى العلاقات الدولية، فى تاريخها من ناحية، وفى الإستراتيجيات الخاصة باستخدام الأسلحة النووية من ناحية أخرى.
ومنذ بداية الستينيات إلى آخِر يوم فى حياته كان قريبًا من جهات صنع واتخاذ القرار الأمريكي، وقدّم المشورة لكل الرؤساء الأمريكيين، وربما كان الرئيس أوباما الذى تصور، وما زال يتصور، أنه أذكى من كل المتخصصين، الاستثناء الوحيد. وفى إدارات نيكسون وفورد كان مستشارَ الأمن القومي، ثم جمع بين هذا المنصب ومنصب وزير الخارجية.
يمكن القول إنه أدار الصراع مع الاتحاد السوفييتى ببراعة نادرة، هو ونيكسون صاحبا فكرة الانفتاح على الصين الشيوعية؛ إما لمحاصرة الاتحاد السوفييتي، وإما لإيجاد وضع تتنافس فيه موسكو وبكين على مكانة الشريك أو المحاور الرئيس لواشنطن، وهو أيضًا صاحب سياسة الوفاق مع الاتحاد السوفييتى ومفاوضات ومعاهدات الحد من الأسلحة.
فيما يتعلق بالشرق الأوسط، قام بالوساطة التى سمحت برسم إطار الخروج من حرب 1973، ومن المعروف أنه كان دائم الإعجاب بالرئيسيْن السادات وحافظ الأسد، على اختلاف إستراتيجيات هؤلاء فى التفاوض، ولكنه كان، طبعًا، منحازًا لإسرائيل. لاحظ بعض المؤرخين أنه لم يتكلم كثيرًا فى مذكراته عن علاقات الولايات المتحدة بإيران الشاه، رغم كونها ركنًا من أهم أركان النظام الإقليمى وحليفًا أساسيًّا لواشنطن وتل أبيب، هذا السكوت يوحى بأنه لم يكن هناك مجال للتفاخر، وإن لم تخُنّى ذاكرتي؛ كشف المؤرخون أن واشنطن سمحت لإيران برفع، عدة مرات، أسعار البترول، وباركته لأنها كانت تريد أن تبيع لها كمًّا كبيرًا من الأسلحة، ولم تنتبه إلى تبِعات «الصدمة البترولية» على اقتصادات الغرب إلا بعد فوات الأوان.
الخلاف الأمريكى الحالى على سياساته وأدائه لا يثور حول ما سبق، ولكنه محتدم فيما يتعلق بإدارته ملفات العالم الثالث، سواء فى شرق آسيا أو فى أمريكا اللاتينية. فى آسيا أطال دون داع – وفقا لمنتقديه – الحرب وفتح جبهة جديدة فى كامبوديا، مما تسبَّب فى وفاة ملايين من الناس – آملًا فى تحسين شروط الاتفاقيات التى أنهت الحرب، لتنسحب الولايات المتحدة بكرامة، ولكن الشروط التى حصل عليها لم تكن أحسن من تلك التى كانت معروضة فى بداية ولاية نيكسون.
ويتعرض موقفه من أزمة بنجلاديش ودعمه باكستان فيها، لانتقادات أشدّ، شأنه شأن موقفه من الرئيس الشيلى سلفاتورى الليندى اليساري، تم تدبير انقلاب أطاح به وأدى إلى تصفيته، وقبلها تم اغتيال رئيس أركان الجيش الشيلى شنايدر لأنه رفض التورط فى العملية. وبعدها تمت تصفية عشرات الآلاف من الكوادر الشيوعية وغيرها.
لا أعرف إن كانت ظروف الحرب الباردة تشكل ظرفًا مخففًا لهذه الخطايا أم لا، ولا أعرف إن كان من الممكن لأى فاعل أن يدير فى وقت واحد كل الأزمات التى تعامل معها كيسنجر، دون أن يرتكب أخطاء جسيمة، ما هو لافت للنظر أن كل هذه الأخطاء وقعت أثناء تعامله مع ملفات العالم الثالث.
من عملوا مع كيسنجر قالوا إن اضطهاد النازيين لعائلته، والصعوبات التى واجهتها فى الغربة، أثرت على تكوينه ورؤيته للعالم. كيسنجر كان يتصور/ يدرك أنه لا يمكن تحقيق الاستقرار والعدل فى آن واحد، وكان يرى أن الاستقرار أهم.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية