عن الساسة والسياسة
يوم 6 أكتوبر الماضى، كان أغلب المعلّقين الغربيين الذين تيسّر لى قراءتهم شديدى الكراهية لرئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، وشديدى الإعجاب ببراعته ومهاراته السياسية ومكيافيليته، فهو قد نجح فى دفن القضية الفلسطينية، وفى تعميق الانقسام الفلسطينى، وفى تطوير القطاع التكنولوجى فى إسرائيل وتقوية اقتصادها، ونجحت دبلوماسيته فى عقد اتفاقيات وشراكات مع عدة دول أغلبها علنى – على عكس ما كان يحدث فى الماضى. وإضافة إلى ذلك استطاع أن يكون رئيس وزراء إسرائيل لفترة طويلة جدًّا، رغم تُهم الفساد التى طالته.
وفى أقل من يومين تغيرت الصورة وانقلبت رأسًا على عقب، وأصبح تقييم نتنياهو بالغ السلبية فى الإعلام وبيوت الخبرة الإسرائيلية والغربية، يقال عنه إنه الشخص الذى مكن أكثر الأحزاب الإسرائيلية تطرفًا، سواء فى السلطة التنفيذية أم على الأرض فى الضفة، وأنه فعلها لصالح شخصى – رغبته فى الإفلات من المحاكمة، وأن إستراتيجيته كانت على الأقل رهانًا بالغ الخطورة – إضافة إلى كونه غير أخلاقى ومخالفًا لكل المواثيق والقرارات الدولية. راهن على إمكان إجراء ضم تدريجى للضفة، وترك المتطرفين اليهود يرتكبون أنواعًا مختلفة من الجرائم ضد سكان الضفة، وربما تهجيرهم دون أن تكون هناك مقاومة – أيًّا كان رأينا فى الشكل الذى اتخذته هذه المقاومة وتكييفها القانونى وحصادها النهائى. ولم يلتفت إلى مخاطر الكراهية التى أسهم فى زرعها بنفوس الفلسطينيين وإلى مخاطر انسداد الأفق السياسى.
لا أعرف من يتحمل مسئولية التقصير الأمنى الذى مكّن حماس من القيام بعمليتها – هل هو نتيجة حتمية لخيارات اقتضت تواجدًا عسكريًّا كثيفًا فى الضفة وتعرية جبهة غزة، هل هو نتيجة الاعتماد على التكنولوجيا فى عمليات جمع المعلومات والرقابة، مع تصور أن الفلسطينيين متخلفون لن يجدوا وسيلة لتحييد وإبطال هذه التكنولوجيا، أم هل هناك أخطاء جسيمة للقيادات الأمنية والاستخباراتية والعسكرية. الغالب أن مزيجًا من هذه العوامل وغيرها هو السبب.
لم ينتبه نتنياهو إلى ما يلى… تاريخيًّا، ظهرت الدولة الحديثة فى أوروبا؛ لأن ملوكها وفلاسفتها رأوا فيها الحل والأداة الضروريين للقضاء على العنف الدينى وعلى الحروب الأهلية بين أصحاب المذاهب المختلفة، وهى حروب أجّجها المتطرفون. فجمعت السياسة الإسرائيلية بين زرع كراهية متناهية وهدّامة فى نفوس الفلسطينيين من ناحية، ومنع هؤلاء الفلسطينيين من بناء دولة، وهى الأداة التى نعرفها لمنع العنف الفوضوى. أفهم أن إسرائيل تخشى أن وجود دولة فلسطينية قد يؤدى إلى ترشيد العنف، ومن ثم جعله أكثر خطورة عليها على المدى الطويل، ولكننى أتصور أن وجود دولة فلسطينية خيار يحسن الوضع الأمنى الإسرائيلى، إلى حد كبير وليس مطلقًا.
من المبكر إجراء تقييم استراتيجى لحصاد الأحداث، ما يمكن قوله أن إسرائيل أصبحت عبئًا إستراتيجيًّا على الغرب، فهى احتاجت لحماية أمريكية نشيطة، وعمليتها العسكرية فى غزة عمّقت تصدعًا كان موجودًا فى الجبهة الداخلية فى عدة دول غربية، وانهار الردع الإسرائيلى والرواية الإسرائيلية الكبرى – أنها الملاذ الآمن الوحيد فى العالم بالنسبة لليهود، وسعيها إلى استرداد هذا الردع يدفعها إلى سلوك ضد مواطنين عُزل يُفقدها تعاطف العالم، ولا سيما أنها عاجزة عن التقدم بمبادرة سياسية أو خريطة طريق، وتصرُّ على محاولة الترويج لخيار التهجير القسرى… أو على كلام مفاده أن الحل هو تشكيل محليات فلسطينية لا سلطات لها ولا تتبع السلطة الفلسطينية.
بيد أننى شديد التشاؤم، لقد نجحت السياسات الإسرائيلية آخِر 22 سنة فى الإكثار من المعوقات ومن الحقائق على الأرض المقيمة لأمر واقع يصعب إقامة الدولة الفلسطينية، ولا أتصور أن الرأى العام الإسرائيلى سيجنح إلى السلام بعد ما حدث، ولا يوجد ما يضمن عزمًا غربيًّا متواصلًا على الضغط على إسرائيل وعلى حثّها على الاعتدال، وإن وجد فإن اندلاع أى أزمة دولية فى أى مكان آخر سيقضى عليه.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية