خواطر مشتتة حول العالم والمهنة (2)
قدرى أننى عشت وانخرطت فى مجتمعين؛ المصرى والفرنسى… فى ثقافتهما السياسية ما هو مشترك؛ مركزية الدولة، والسلطات الواسعة للرئيس، ووجود ثقافة دولية لدى قطاعات كبيرة من الشعب، وميل المحكومين إلى الاعتماد على الدولة فى أمور كثيرة، والاعتزاز بالتاريخ والثقافة، والتفاخر بالهوية والخوف عليها، وتصورات عن دور حقيقى أو مفترض لكل منهم فى الإقليم والدولة، وإحساس عقلانى أم لا ولكنه سائد بأن هذا الدور معطل، وأن هذا سيئ للعالم، وإحساس مجتمعى بتراجع مريع ومُقلق فى مستويات المعيشة، وميل العقول والكفاءات إلى الاغتراب، ومشكلات كبيرة متعلقة بالهجرة، ولكن المختلف بل المتناقض كثير، ودوائره تتعمق وتتسع يوميًّا.
المختلف معروف وغير معروف فى آن واحد، أقصد أن «رءوس الموضوعات» معروفة، ولكن تبِعات هذا على العقليات والبنية النفسية والمُدركات والسلوكيات غير مفهومة تمامًا، كلنا- هنا وهناك- نعرف، على سبيل المثال، أن دور الدين تراجع بشدة عندهم، ولن أقول «وتصاعد عندنا»، بل سأقول أصبح أكثر وضوحًا، ولكننا- هم ونحن- لا نفهم، على وجه الدقة، علاقة الآخر بالمقدس، ونحن وهم مائلون إلى تبسيطها تبسيطًا مُخلًّا مانعًا للفهم. هل هذا العجز عن الفهم- هنا أو هناك- عائد إلى غياب الإرادة وتحجُّر العقليات وانغلاق نرجسى على الذات، مع توهم الانفتاح على الغير، أم إلى تدهور مستويات العلوم الإنسانية والخبراء والمثقفين هنا وهناك، أم لأن اتساع الهوة مانع للفهم… لا أملك ردًّا.
ولكى لا نخدع أنفسنا، علينا الإقرار بأن مجهود وسعى الدوائر السياسية والعلمية والثقافية والجامعية الغربية لفهم الآخر أكبر وأعمق وأهم وأكثر تنوعًا وتشعبًا مما نقوم به، وهذا الفارق لا يفسَّر فحسب بالفارق فى الإمكانيات، ولا يتسع المجال هنا لتقييم تفصيلى لحصاده ولتأثير هذا الحصاد على مُدركات وسلوكيات الفاعلين والرأى العام، ولا أعرف أصلًا إن كنت قادرًا على إجرائه، ولكننى متأكد من أن المشوار ما زال طويلًا أمامهم… وأطول فيما يخصُّنا.
مثال آخر لما أقصده هو ما يذكره أحد شيوخ تدريس الفلسفة هناك… فى أوروبا لم تعد هناك عقوبة إعدام، وهى عندنا مقرَّرة، كلنا نعلم ذلك، ما لا نفهمه هو عمق ومجال تأثير هذا على العقليات، وتحديدًا على التصورات عن سيادة الدولة وحقوق المجتمع هنا وهناك.
مثال ثالث… ساد فى الغرب بعد انهيار المعسكر الشيوعي، حالة نفسية يمكن اختزالها تحت مسميات عدة، ثقافة سلام، ثقافة يحكمها تصور أن التاريخ انتهى، أو على الأقل انتهى الصراع الفكرى والسياسى فيه، ثقافة عولمة ترى أن العولمة الاقتصادية سارية فى مجراها ساحقة ماحقة للمنظومات الاقتصادية التى تقيّد أو تُلغى حرية السوق، دافعة إلى فرض صيغة محددة- ديمقراطية تمثيلية واقتصاد سوق- فى كل أنحاء المعمورة، متجاوزة أو مقللة من أهمية التناقضات الفكرية والثقافية والدينية، إن لم تكن مُلغية لها،
وأيًّا كان المسمى الذى نختاره لوصف هذه الحالة الفكرية والنفسية، فإنه يبقى أنها عجزت عن فهم أبجديات السياسة الدولية والإستراتيجية، ألخص هذه الحالة بتبسيط لا أراه مُخلًّا: «نحب الكل ولا أعداء لنا». المشكلة أن الواقع أثبت أن الغرب لا يحب الجميع، سواء أكانت دوافع مواقفه وجيهة أم لا، وأنه لا أحد يستطيع أن يقول «لا أعداء لى»؛ لأنك لا تستطيع أن تمنع من لا يحبك من أن يتحول إلى عدو. ومن تبِعات هذه الحالة النفسية والثقافية اختلال التوازن بين اعتبارات الاقتصاد والأمن لصالح الأولى، وسياسات غبية فيما يتعلق بصناعات التسليح وبالإنفاق العسكرى عامة، يمكن القول إن أغلبهم غرق فى حلم نهاية التاريخ، وفى ثقافة سياسية لا تفهم العلاقات الدولية، ونحن غرقنا فى حالة أقرب إلى ثقافة الحرب، وفى مقاربة هى فى الواقع مقاربة هانتجتون عن صراع الحضارات، وعن استحالة اللقاء والحوار البنّاء.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية