الهمجية والحضارة
القرن العشرون كان قرن أعظم الاكتشافات العلمية التى أثّرت بالإيجاب على مستوى حياة الناس وصحتهم، وكان قرن تعميم التعليم، وإشراك الشعوب فى السياسة، وتحررها من سطوة الإمبراطوريات والمشروعات الاستعمارية، وتنوع وسائل الانتقال والاتصال والتواصل، وانفتاح الجماهير الغفيرة على الغير وعلى العالم، وكان أيضًا قرن مجازر لم يشهد العالم مثيلًا لها، وسادت أيديولوجيات وأفكار تُنكر وتحتقر مفهوم الإنسانية المشتركة، وتعبد الحرب وتسعى إليها كأنها الخلاص أو الطريق الوحيد إليه، وتسببت فى موت عشرات الملايين من الناس، واتضح أن التقدم العلمى والتوسع فى التعليم لم يؤدّيا إلى تراجع الهمجية والتوحش والبربرية، بل فاقما منها، ولم يمكّنا العقل والتعقل، بل عمَّما الغباء وعمّقا الكراهية، وقضيا على الفطرة السليمة، ولم يُحكّما الوسطية والمنطق.
ويبدو أن القرن الحادى والعشرين يسير فى الاتجاه نفسه، الدولة والمجتمعات الوطنية معرَّضة لهجمات شرسة، من دول أخرى لها ماض إمبراطورى وأحلام عظمة وتريد أن تعود وتمارس العنف وتعتدى على دول الجوار، لاجئة إلى درجات متفاوتة من العنف، ومن تنظيمات عقائدية تمارس بطريقة منهجية العنف البالغ لفرض تصوراتها، ومن عصابات الجريمة المنظمة العابرة للدول، وإلى جانب هذا تتعرض الدول والمجتمعات لضغوط هائلة تؤثر بالسلب على سيادتها وتمسكها، هجمات الرأسمالية العالمية، موجات لا نهاية لها من المهاجرين الهاربين من لعنة الفقر ومن جحيم الحروب الأهلية، وضغوط مروِّجى نماذج يريدون فرضها ويتصورون أنهم يمتلكون دون غيرهم الحل الأمثل الصالح لكل مكان وزمان.
باختصار، أتصور أحيانًا أن الهمجية لم تتراجع، بل تزدهر، وأنها تمضى قُدمًا لتحكم العالم ولتكون هى الأصل وليس الاستثناء، أعلم طبعًا أننا لم نصل بعدُ إلى درجة التوحش التى سادت أثناء الحرب العالمية الثانية، ولكننا للأسف نسير فى هذا الاتجاه، ويبدو لى أننا دخلنا كلنا فى حلقات من العنف والعنف المضاد والتصعيد والتصعيد المضاد، ونرى الضحية ينقلب جلادًا، والجلاد يصبح ضحية!
أعرف طبعًا أن الصراع من سنن الحياة، وأن أفضل وسائل منع اندلاع الحروب هو بناء مؤسسات عسكرية قوية، فالضعف يولّد الأطماع، وأعرف أن لكل مجتمع أو دولة أعداء متربصين بها، وأن مهادنتهم لا تجوز، ولكن قبول هذا الواقع والتعامل والتكيف معه أمر، وعبادة الحرب والمجازر وتقديسها والسعى إليها وإلى قلب أبدى وليس مؤقتًا للعلاقة بين السياسة والحرب لتكون السياسة خادمة للحرب، أمر آخر.
أشدِّد على إيمانى بأن التنوع البشرى والصراع من سنن الحياة، ولستُ من الدعاة السُّذّج إلى سلام وتآخٍ كونيين، ولستُ من أنصار المذهب الذى يتصور أن هناك طريقًا وحيدًا دون غيره إلى الرقى والحضارة، ولا أنتمى إلى الفرق التى ترى أن هناك نظامًا سياسيًّا واحدًا صالحًا لكل مكان وزمان، أو على الأقل أعرف أن البشرية لم تتوصل ولن تتوصل إلى مثل هذا النظام، وهذا لا يعنى أن كل الطرق وكل الأنظمة متساوية، ورعبى من المشاعر والخطابات التى تؤجج الهمجية والعنف وتصور الغير أو العدو على أنه حيوان يجب إبادته لا يعنى أننى أثق فى سلطان العقل، وفى الحقيقة لا أتصوره معصومًا من ارتكاب أخطاء فادحة، وأعرف أن الاعتدال يكون أحيانًا ستارًا يُشَرعن للانهزامية.
لا تعجبنى السياسات الخارجية للدول الكبرى، ولا أحوالها الداخلية، ولا الأيديولوجيات التى تؤطر عمل نُخبها، وأتصور أننا مقبلون على جولات من المواجهات دفاعًا عن مصالحنا، ولكننى أخشى الدول التى تدعو للهمجية أو توظفها، وتدعو صراحة إلى تدمير النظام العالمى والقوانين الضابطة له بدعوى أن كل هذا يكرّس هيمنة الغرب، أرى من الضرورى مواجهة من يهدد مصالحنا، شرقيًّا كان أم غربيًّا، وأؤمن بأنه يمكن، بل يجب، أن يتم هذا دون غلق باب التعاون، ودون رفض لفكرتين أراهما فى حاجة ماسّة إلى الدفاع عنهما… القانون الدولي، والإنسانية المشتركة.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية