السياسة الدولية والأخلاق والقانون
العديد منا يتصور أن الجمع بين القوة وعدم الاكتراث بمقتضيات الأخلاق والقانون روشتة رابحة فى كل الأحوال، وقطعًا يستطيع كل منا أن يسوق أمثلة تدل على هذا، سواء فى منطقتنا أم فى غيرها. وهناك من يرى أن التغنى بالأخلاق يخفى دائمًا غرضًا مشبوهًا ومصالح غير مشروعة إن لم تكن قذرة، وهنا أيضًا الأمثلة لا حصر لها، وهناك من يرى أن الأخلاق حمّالة أوجه، وأننا نستطيع أن ندافع عن الشيء ونقيضه باعتبارات أخلاقية، وأن نهاجم موقفًا ونقيضه باسم مقتضيات الأخلاق، وهناك حديث دارج عن الفارق بين أخلاق القناعات وأخلاق المسئولية، وآخر عن اختلاف مضامين الأخلاق من ثقافة لأخرى، ومن دين لآخر، ومن تيار فكرى إلى آخر.
وأعترف بأن حديث الرئيس أوباما الدائم عن أخلاقه وأخلاق الولايات المتحدة ومواعظه الدائمة وتوزيعه الثناء والتوبيخ يمينًا وشمالًا «وفوق وتحت» من أسباب استيائى منه ومن الحيثيات المؤسسة لقناعتى أنه لا يفهم فى السياسة الخارجية. أفكر فى تناقضاتي، وأرى فى تفسيرى لموقفى من هذا الرئيس ومن غيره مدخلًا للسير إلى الأمام، كلام الرئيس أوباما عن الأخلاق ومقتضياتها لعب دورًا كبيرًا فى تفاقم أزمات لتتحول إلى كوارث- فى تأكيد لما قاله قال أحد عمالقة الفكر الكاثوليكى الفرنسي، «الإنسان ليس ملاكًا ولا وحشًا، وسوء الحظ يقضى بأن من يريد أن يكون ملاكًا يصبح وحشًا»، ومن يتصور نفسه نبيًّا بعد أن انتهى عصر الأنبياء يتحول إلى نصّاب خطر.
أفهم طبعًا أن قول كلمة حق عند من هو جائر واجب أخلاقي، وفى المقابل علينا أن نتذكر أن الفتنة نائمة، لعنة الله على من أيقظها، وأتصور أن كلمة حق تقال علنًا يمكن أن تولّد كوارث، فكلنا نعرف التعبير «كلمة حق يراد بها باطل»… تقول كلمة حق ونيتك سليمة ويتلقفها من له أغراض ويوظفها لتبرير سلوك غير أخلاقي، إن لم يكن إجراميًّا. فى أحوال كثيرة لا تستطيع أن تتوقع توظيف الغير لكلامك، لكن هناك أحوالًا ليست بالقليلة تستطيع أن تتوقع فيها تبِعات كلامك. حتى قوة عظمى مثل الولايات المتحدة لا تستطيع دائمًا أن تفعل كل شيء.
لا أقول السكوت من ذهب، ما أقوله هو وجوب تفكير السياسى أو المنخرط فى العمل السياسى فى تبِعات كلامه، ومن المفروض ألا يقول كلامًا أخلاقيًّا لا يستطيع تحويله إلى سياسة فاعلة، أو يترتب عليه ولو ضمنًا التزامات لا يستطيع الوفاء بها، أو كلامًا يولّد توقعات عند فاعلين تدفعهم إلى ارتكاب حماقات تؤدى إلى كوارث. أدرك طبعًا أن الرأى العام فى كل دولة فى العالم يفضل العنتريات والشعارات على الكلام القليل الموزون. وأن كل شعب يحتاج إلى حلم وإلى مشروع، لكن عدم واقعية المشروع تؤدى حتمًا إلى خيبة أمل كبيرة موجعة.
أنتقل إلى نقطة أخرى، قد تنجح سياسة تخالف صراحة كل منظومات الأخلاق المتعارف عليها، وقد يكون النجاح مبينًا، ولكن التاريخ يثبت أنه من المرجح أن تدفع ثمن احتقارك للأخلاق، إن آجلًا أم عاجلًا، ويكون هذا الثمن باهظًا إن كان جُرمك فاحشًا، قد يتأخر وقت السداد، ولكنه آتٍ فى أغلب الأحوال، تأملوا معى عدم تصديق حكومات وشعوب العالم الثالث كلام الولايات المتحدة، وحتى حلفاؤها مالوا إلى الشك فيه عندما قالت، فى يناير وفبراير 2022، إن روسيا ستقوم بالاعتداء على أوكرانيا، وكيف لم يلبّ أحد فى العالم الثالث طلباتها المختلفة المتعلقة بإدارة الصراع مع روسيا، رغم عدالة قضيتها فى هذا الملف تحديدًا…
من يقول إن الأخلاق لا تهم، وأن القانون الدولى فى إجازة، وأن حسابات المصالح وموازين القوة هى السنة، على حق على المدى القصير، ومخطئ على المدى الطويل، فالسمعة مهمة فى العلاقات الدولية.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية