السياسة والأخلاق والقانون فى العلاقات الدولية
أتكلم اليوم فى العلاقة بين السياسة والأخلاق فى السياسة الدولية، دون تبحر كافٍ فى فلسفة الأخلاق، ولكننى أتصور أننى متابع معقول لبعض ملفات العلاقات الدولية ولأعمال المؤرخين، وركن مهم من أركان تخصصى علم اجتماع القرار، ودور المدركات فى كيفية اتخاذه.
هناك مقولة يعرفها الجميع… «الغاية تبرر الوسيلة ولا أخلاق فى السياسة». أتصور أنها تبسيط مُخلّ لقضية بالغة التعقيد. وأقول دائمًا للطلبة: فى الواقع هناك منظومة للأخلاق خاصة بالسياسة، وهى منظومة تختلف جوهريًّا عن المنظومة الدينية أو عن منظومة الأخلاق التى تضبط – على الأقل هذا هو المفروض – سلوكنا فى الحياة اليومية كبشر عاديين. على سبيل المثال، السخاء صفة محمودة فى الحياة اليومية، فى حين أنه ليس كذلك فى العلاقات الدولية إن لم يحقق مصلحة. وحتى كلامى هذا – النابع من قراءة بعض كبار شُراح أعمال مكيافيللى – فيه تبسيط مُخلّ. دعونا نعقّد الموضوع.
أولًا المعروف أن السلوك الأخلاقى الذى يهدف إلى تحقيق مصالح دنيوية لا يعدّ دليلًا على أخلاق صاحبه، بل هو دليل على ذكائه فى سعيه إلى مصالحه. وبما أن السياسة هى دائمًا سعى إلى الدفاع عن المصالح – سواء أكانت مادية أم لا – فإن أى سلوك أخلاقى فى هذا المجال لا يعنى فى حد ذاته أن صاحبه خَلوق. يترتب على ذلك استحالة الثقة فى الحلفاء والشركاء والفُرقاء والخصوم. الثقة العمياء مستحيلة والثقة «الطبيعية» التى تحكم التفاعلات بين أفراد عاديين تنطوى دائمًا على مخاطرة. هل يعنى هذا أن الشك الدائم والمنهجى واجب؟ أتصور أن الرد «لا». قد يبدو الشك ضروريًّا لعدم الوقوع فى فخ أو آخر، ولكنه يمنعك، من ناحية، من استغلال الفرص السانحة، ويجعلك تتخيل مؤامرات غير موجودة إلا فى خيالك ولا ترى… المؤامرات الحقيقية.
فى الداخل، الحل لهذه المعضلة هو وجود رادع حاسم. هذا الرادع هو وجود روابط قوية… أو وجود دولة قوية لها نظام قانونى قوى واضح، وهيئات قضائية كفؤة. أوضّح قصدى بالروابط، لن يفكر أحد فى خداعك – أو سيفكر مرتين أو ثلاثًا قبل أن يفعلها – إن كنت مؤثرًا أو لك عزوة، وإن كانت مخاصمتك تعنى مخاصمة الكثيرين.
العلاقة بين القانون والسياسة داخل أية دولة علاقة معقدة، هناك أولًا أعمال السيادة، التى لا تخضع للمنظومة القانونية، وهناك فارق فى المنطق، فأول خصائص القاعدة القانونية هى العمومية، فى حين أن مهارة السياسيين هى القدرة على الحكم على كل حالة فردية وفقًا لخصوصيتها، خصوصية الأفراد والظرف والاعتبارات، وهناك خلافات بين الفلاسفة حول التوازن الجدلي… هل السياسة تنشئ القانون وتحدد مجاله ونطاق صلاحيته، أم يقوم القانون بتأطير السياسة وضبطها، والحد من شراسة الصراع السياسى بوضع حدود وقواعد؟
والعلاقة بين السياسة والقانون تزداد تعقيدًا فى السياسة الدولية، من ناحية خطر سيادة شريعة الغابة أشد وطأة، ومن ناحية أخرى يفتقر القانون الدولى إلى صفة الإلزامية، وإنفاذه متوقف على إرادة الدول، وعلى رغبة وقدرة الدول الأخرى على معاقبة المخالف. وبما أن لكل دولة حساباتها، وبما أن المهارة السياسية هى القدرة على تقييم كل حالة على حدة وفقًا لخصوصيتها، ومن ثم ستقرر أية دولة لوحدها إن كانت تريد إنفاذ القانون ومعاقبة المخالف، أم تفضّل أن تغض البصر، ومن ثم فإن الكيل بمكيالين أو أكثر هو سلوك منتشر إن لم يكن عامًّا.
لا تنحصر المشكلات فى النقاط المذكورة أعلاه، هناك مثلًا اتهام ليس دقيقًا ولكنه ليس عاريًا من الصحة، اتهام مفاده أن القانون الدولى حرّره عدد من الأطراف كلهم غربيون، وأن هذا القانون يعكس منظومتهم الأخلاقية ومصالحهم. ولا أقلل من أهمية الاعتراض، ولكننى أقول… قانون سيئ أفضل من لا قانون… وهناك مشترك بين كل الثقافات.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية