إدارة الرئيس بوش الأب وأزمة البوسنة
العرض المقبل فى هذه السلسلة اعتمد على قراءة عشرات الكتب، أهمها للصحفى الكبير ديفيد هالبرستام «الحرب فى عصر السلام: بوش وكلينتون والجنرالات». ولهالبرستام عدد من الكتب القيّمة أشهرها «الأفضل والألمع» عن عملية اتخاذ القرارات التى أدت إلى تورط الولايات المتحدة فى حرب فيتنام، قرارات تبدو حكيمة عند اتخاذها ولكنها تؤدى إلى كارثة.
وأبادر، قبل بداية العرض، بملاحظة عامة هى ثمرة خبرتى المتواضعة، عندما تؤدى سلسلة من القرارات إلى تبعات كارثية تبدو وتكون نتيجة منطقية لها، يميل خبراؤنا وخبراء غيرنا وقطاعات كبيرة من الجمهور فى كل أنحاء المعمورة إلى اعتقاد أن أصحاب القرارات توقعوا هذه التبعات وأرادوها، وأن هذه التبعات كانت الهدف الحقيقى غير المعلن لهذه القرارات. ويقول أصحاب هذا الاعتقاد، على اختلاف جنسياتهم ومشاربهم، إن عملية اتخاذ القرار – ولا سيما فى الدول الغربية – مؤسسية، وتخضع لتخطيط علمى صارم وحسابات دقيقة.
وهذا المنطق غير سليم؛ لعشرات الأسباب أكتفى بذكر بعضها، قال مفكر ذات مرة «عندما تندلع ثورة تبدو مفهومة لأنها حصاد منطقى لتفاعل مئات من العوامل (المرصودة)، وعلى الرغم من هذا فإن اندلاعها يكون دائمًا مفاجئًا». فى سبتمبر 2021 كان كل العوامل التى تسببت فى اندلاع الثورة المصرية موجودة، لكن النداءات الداعية للنزول إلى الشارع لم تسفر عن أى شيء. تغير الوضع فى يناير 2011 لأسباب يمكن تفسيرها بسهولة، ولكنها كانت غير متوقعة.
أصحاب القرار يميلون دائمًا إلى تفادى اتخاذ قرارات تكلفتها باهظة حالة، وعيوبها واضحة، حتى لو سمحت بمنع كارثة أكبر كانت تلوح أو لا تلوح فى الأفق، مثال معاصر قد يوضح فكرتي… يلوم عدد كبير من الخبراء الإستراتيجيين – وكنت منهم- إدارة الرئيس بايدن؛ لأنها لم تنشر قوات إضافية فى أوروبا الشرقية فى ديسمبر 2020 بعد أن حشد النظام الروسى ما حشده على الحدود الأوكرانية الروسية، ولأن الرئيس الأمريكى قال مرارًا إنه لن يتدخل عسكريًّا ما دام لم تعتدِ روسيا على دولة عضو فى «الناتو». ويرى بعض محبّى نظريات المؤامرة فى هذا المسلك فخًّا أمريكيًّا للرئيس الروسي، وكنت أرى أن هذا السلوك ستفسره سلطات روسيا على أنه علامة ضعف ودليل على فقدان الغرب الرغبة والقدرة على القتال.
ولكننى كنت فاهمًا لجانب مهم من القضية لم يلتفت إليه الكثيرون؛ وهو أن إدارة الرئيس الأمريكى لا تستطيع ولا تريد تلقى وتحمُّل صفعة جديدة وفشل آخر بعد صفعة وفشل أفغانستان، وكنت محظوظًا لأن متابعتى للملف الروسى الأوكرانى لمدة ثلاثة عقود جعلتنى أفهم أن الرئيس الروسى لم يكن قط ومنذ بدايات حكمه قادرًا على التحكم فى مشاعره وإجراء حسابات باردة فى هذا الملف تحديدًا دون غيره. إضافة إلى ذلك كان أسيرًا لأيديولوجيات القومية الروسية المتطرفة والجريحة. وكنت أعلم أن الكثيرين من المتخصصين الغربيين فى الشأن الروسى فاهمون هذا، وأن الرئيس بايدن فاهم هذا.
إذن ما مبررات السلوك الأمريكى قبل الحرب، وهو سلوك انتقده عدد كبير من جماعة السياسة الخارجية الغربية؟ أولًا نشر عدد كبير من القوات عملية مرتفعة الكلفة قد يعترض عليها الرأى العام ما دامت روسيا لم تبدأ العدوان، والرأى العام الأمريكى تحديدًا سئم من الحروب، وكان سيسمح للدعاية الروسية بالعزف على نغمة عدوانية الغرب وشراسته، وثانيًا لم يكن هناك فى أوروبا – باستثناء بولندا وجمهوريات البلطيق – أية جهة ترى أن احتمال الغزو احتمال وارد فعلًا، ولم يكن أحد يصدق الكلام الأمريكى بعد مسلسل الأكاذيب الذى سبق العدوان على العراق. وكان عدد كبير من الخبراء والقادة الأوروبيين يرون أن الاعتماد الاقتصادى والتجارى المتبادل بين روسيا وأوروبا سيدفع الرئيس الروسى إلى التروى والاكتفاء بتنازلات جديدة وأنه لن يُقْدم على حرب.
يتبع
- أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية