عن التسعينات فى أوروبا (4)
هناك تصور يسيطر على العقل الجمعى والمخيال لعدد من الدوائر المصرية وبعض القطاعات الشعبية، ومخيال عدد كبير من شعوب العالم الثالث، يرى أن انهيار الاتحاد السوفييتى يعود أولًا وثانيًا إلى رعونة الرئيس الروسى ميخائيل جورباتشوف، وأن الغرب استغلّ الفرصة ليركب العالم و«يدلدل» رجليه وليهيمن ويسيطر، وأن جوهره العدوانى دفعه إلى البحث عن عدو جديد ووجده فى الإسلام والمسلمين، ومصدر المقولة الأخيرة عدد من الكتب الغربية، ومقارنة بين توحش الغرب فى مواجهة الغزو العراقى للكويت الشقيق، وتباطئه الشديد فى مناجاة مسلمى البوسنة، وانحيازه لإسرائيل.
هذا التصور لا أساس له من الصحة، يعلم من يشرّفنى بمتابعة كتاباتى أن موقفى من أداء النخب الغربية منذ بداية التسعينات سلبي، وأننى شديد النقد لتصوراتها عن العالم، وعن مجتمعاتها، المتفائلة منها والمتشائمة، ولإدارتها العلاقة بين الاقتصاد والعولمة والأمن والدفاع، ولعلاقاتها مع شعوبها، ولأخطائها الكارثية فى عدد لا يُحصى من الملفات، ولحالة نفسية سادت هى مزيج من التعالى والنرجسية والتفاهة. ولكن فهم ما حدث وفهم عالم اليوم يقتضى فهم التسعينات وتحدياتها.
أفنّد بسرعة الاتهامات التى طالت جورباتشوف، هو ورث تركة فيها غرق سوفييتى فى مستنقع أفغانستان، وجيش يستنزف، ونظام اقتصادى لم يعد قادرًا على تلبية حاجات المواطنين وعلى مواكبة التطور التكنولوجي، ونظام سياسى عاجز عن معرفة الواقع وعن وصفه وعن فهمه وعن التعامل معه. كل البيانات وكل الإحصائيات وكل الأرقام المنشورة أو السرية لا معنى لها ولا علاقة لها بالحقيقة، وفى مصر أدرك شخصان على الأقل هذا… الرئيس السادات من ناحية، ومحمد حسنين هيكل من ناحية أخرى، الرئيس السادات – ولا أحبه – كان عميق الفهم لتطور الموازين الدولية وصدَمه عجز الاتحاد السوفييتى فى بداية السبعينات عن توفير القمح الضرورى لاستهلاكه المحلي، وهيكل كان فاهمًا للتحدى الذى تمثله الثورة التكنولوجية فى الثمانينات.
لا أزعم أن الرئيس السوفييتى نجح فى التعامل مع التحديات، ولكننى أقول إن المعركة كانت خاسرة منذ أول يوم. فالنظام – مع استثناء نسبى هو مجمع الصناعات الحربية – لا يعمل وعديم الكفاءة، وأى محاولة لإصلاح أى ركن من أركانه ستؤدى إلى انهيار المنظومة كلها، وهذا ما حدث.
عندما انهار الاتحاد السوفييتى والمعسكر الشيوعي، وتوحدت ألمانيا، عمّت النشوى فى الإعلام الغربى وسادت نغمة سخيفة مفادها «الخير المطلق انتصر على الشر المطلق»، وجاءت هذه النشوة بعد نشوة أخرى… النصر الكبير الذى حرّر الكويت، نصر أنهى عقدين من الشك، ومن جَلد الذات ومن التشاؤم الأمريكيين إثر الفشل فى فيتنام وعدد من الفضائح السياسية؛ أهمها فضيحة وترجيت، وإهانات أزمة الرهائن مع إيران، نغمة جارحة جدًّا للرئيس جورباتشوف، ناكرة لفضله فى تحرير الشعوب الأوروبية، ومُهينة للدولة السوفيتية.
هذه النشوى وصلت البيت الأبيض، باستثناء شخصين أو ثلاثة، منهم الرئيس بوش الأب، ومستشاره للأمن القومي، كانا مُجهدين، أدارا ملفات توحيد ألمانيا، وانهيار حلف وارسو، والعلاقة مع السوفييت، وبناء تحالف دولى لتحرير الكويت والحرب، بكفاءة نادرة، وهى كلها ملفات تتطلب متابعة يومية شاقة ومجهودًا فكريًّا وعصبيًّا وجسمانيًّا كبيرًا، وحرص الرئيس منذ بداية ولايته على التواصل الشخصى المنتظم مع كل زعماء العالم، يعرف رأيهم ويوضح رأيه فى كل القضايا، وليس فقط تلك المتعلقة بالعلاقات الثنائية.
والآن – صيف وخريف 1991 – باتت القيادة الأمريكية تواجه شبح انهيار كامل للاتحاد السوفييتى ويوغسلافيا وعودة الحروب الأهلية والإثنية والقومية الأبدية بين المكونات والشعوب والمِلل والطوائف المختلفة فى آسيا وآسيا الوسطى والقوقاز والبلطيق وأوروبا الشرقية والبلقان.
ندرك فى مصر كمّ التهديدات والمخاطر التى تصدَّينا لها بعد انهيار ليبيا، وكم زعزع هذا السقوط عدة أقاليم، ولكم أن تتخيلوا على ضوء هذا المثال حجم التحديات الناتجة عن انهيار دولة مثل الاتحاد السوفييتى.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية