الحسابات الغربية فى المسألة الأوكرانية
يبدو لى – من خلال متابعة يومية لما يُنشر وكلام مع بعض العالمين ببواطن الأمور- أنه يمكن رسم صورة تقريبية للحسابات الغربية فى المسألة الأوكرانية، وعندما أقول: الحسابات الغربية، أتكلم عن التصورات والتقييمات السائدة فى الإدارات السيادية، وبعض المراكز الفكرية المرتبطة بها، وإحدى نقاط قوة الغرب هى التعددية الثقافية والفكرية، ولكن هذه التعددية لا تضمن فى حد ذاتها دقة التقييم وصحة القرارات.
لا أعلم متى توصلت العواصم الغربية إلى التشخيص الذى أعرضه هنا، وهل تحدد قبل بداية الهجوم المضاد الأوكراني، أم بعد دراسة نتائجه الأولى، ولكننى شبه متأكد أنه السائد حاليًّا.
ترى العواصم الغربية أنه لا يمكن السماح لروسيا بالانتصار، ولا يمكن تحمل ثمن هزيمة روسية تؤدى إلى زعزعة استقرارها وتأخذ مأخذ الجِد التهديدات باللجوء إلى السلاح النووي.
لا يمكن السماح لروسيا بانتصار، لأسباب قانونية وأخلاقية وسياسية، العدوان كان وحشيًّا وغير مبرَّر – لم يكن “الناتو” راغبًا فى ضم أوكرانيا، وكانت ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وأغلب دول أوروبا الغربية، باستثناء المملكة المتحدة، رافضة لمبدأ إغضاب روسيا، والحقيقة أن روسيا حاولت استغلال ضعف الغرب، ولم تكن تخشى قوته. الأسباب السياسية أن أى نصر روسى سيشجع عددًا كبيرًا من الدول على اللجوء إلى القوة الغاشمة، وإلى المبالغة فى التوحش بالعدوان على جوارها لحل خلافاتها. ومن شأنه حث عدد كبير منها على امتلاك سلاح نووى لأنه يؤمّن ضد تصعيد غربي.
وتخشى الدول الغربية من لجوء الرئيس بوتين إلى استخدام “محدود” للسلاح النووي، إن واجه احتمال هزيمة منكَرة، ومن انهيار نظامه إن لم يلجأ إليها، فانهيار الاتحاد السوفيتي، فى تسعينيات القرن الماضي، مرّ بسلام، ولكن لا يوجد ضمان حقيقى إنْ تفكّك الاتحاد الروسي، أو نشبت حرب أهلية، أو انهارت الدولة – وهى تمتلك ستة آلاف رأس نووي.
فتفتّق ذهن خبراء الإستراتيجية فى الغرب عن حل يسمح بإنقاذ أوكرانيا، وبإيقاف روسيا عند حدّها، مع السماح لروسيا بزعم أنها انتصرت أو حققت أهدافها أو بعضها، والخطوط العريضة لهذا الحل هى قبول أوكرانيا التنازل عن بعض الأراضى التى استولت عليها روسيا بالقوة الغاشمة، مقابل انضمامها لـ”الناتو”، بحيث لا تجرؤ روسيا على معاودة العدوان.
ويعتقد الخبراء أن الهجوم المضاد الأوكرانى قد ينجح فى تحرير بعض الأراضي، وربما الكثير منها، ويحسِّن موقف أوكرانيا التفاوضي، ولكنه لن ينجح فى تحقيق كل أهدافها إلا فى حالة انهيار الجيش الروسي، وهو احتمال مستبعَد وغير مرغوب.
وقد أدلى موظف كبير بـ”الناتو” بتصريح بهذا المعنى، وتم تكذيبه بعد احتجاج أوكرانى – هل نقبل التنازل عن شبر واحد من أراضينا – ولكن التكذيب كان غالبًا كاذبًا.
المشكلة الأولى فى هذا الحل أن الطرفين المتحاربين يرفضانه، وأن الضغط على أوكرانيا لا يمكن أن يتجاوز بعض الحدود؛ لأن ضغطًا يؤدى إلى إضعافها يمكّن روسيا من نصر ستكون نتائجه كارثية على الغرب. وروسيا لم تفقد الأمل فى إخضاع أوكرانيا، أو تدميرها تدميرًا كاملًا، وتنتظر القيادة الروسية نتائج الانتخابات الأمريكية وهى كلها أمل فى الحصول على شروط أفضل بكثير، فى حال وصول الرئيس السابق ترامب إلى البيت الأبيض.
المشكلة الثانية أن هذا الكلام لا يأخذ بعين الاعتبار طبيعة النظام الروسى ومدركات نُخبه، نظام يرى فى أى تنازل دليلًا على ضعف مقدمه، وما زال يسعى إلى إعادة بناء الإمبراطورية، ويرفض فى قرارة نفسه حق الأوكرانيين فى تقرير مصيرهم، وفى انتهاج سياسة مستقلة، وما زال يرى فى المغامرات الخارجية وسيلة مضمونة لفرض الاصطفاف وراءه ولتحقيق توافق وطنى على أرضية شديدة التطرف والعدوانية.
الحرب ستطول ما لم يسقط أحد الجيشين، وما لم يراجع الغرب سياسته القائمة على رفض مدّ أوكرانيا بأسلحة أقوى. وسندفع الثمن، شأننا شأن الشعبين الروسى والأوكراني.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية