قراءات فى واقع مأزوم
لا أريد ولا أستطيع الخوض التفصيلى فى الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الحالية، لأن الخوض فيها يقتضى التمييز بين حقيقتها وبين عمق الإحساس بها، وتحديد ما هو عارض زائل وما هو بنيوي، وهناك مكاسب وخسائر – معنوية على سبيل المثال- تعجز الأرقام المتاحة عن تقديرها.
تحديد العارض والبنيوى صعب، التعامل المبكر مع السيئ المزمن قد يزيله فيبدو عارضا، وتسمع كلاما عن خطأ اعتباره أولوية. وإهمال عامل لأنه عارض قد يؤدى إلى تفاقمه ليصبح كارثيا وتسمع نقدا يتهم القائمين على الأمر بالإهمال.
إن كان التعامل مع أزمة بنيوية بجسامة وخطورة أزمة التعليم مثلا يتطلب وقتا طويلا، ما العمل؟ لا نستطيع انتظار ثمار الإصلاح بل علينا أن نتصرف وكأن الخلل موجود ليبقى، ولكن هذا الخلل سيؤثر على الأداء بطريقة لا يمكن توقعها.
تعمدت اختيار أزمة التعليم لأننى أقوم بالتدريس فى كلية يراها المصريون كلية النخبة، ولأننى أعتبر الطلبة الذين شرفت بالمشاركة فى تكوينهم من نعم الله عليّ، ولأننى شرفت بالمشاركة فى الحوار الوطنى وحضرت سهرات سمحت بتبادل الخبرات ووجهات النظر.
أول سؤال يفرض نفسه إلا أننا لا نملك بيانات حوله، هل الالتحاق بالكلية من اختيار الطالب أم أمر مفروض عليه من قبل الأهل أو نتيجة الثانوية، وإن كان الأمر أمرا عائليا هل هو مبرر؟ أعرف أن أقلية معتبرة من الطلبة كانوا يفضلون الالتحاق بكلية أخرى واختيار دراسة أخرى. عدد منهم كان يريد الالتحاق بفنون جميلة أو بمعهد السينما أو بأقسام التاريخ فى كلية الآداب. منطق الأهل مفهوم. المشكلة فى كونه طبيعيا ورشيدا، رغم مساوئه الواضحة، الطالب إياه ليس سعيدا ولا متحمسا ويرى فى المناهج تعذيبا يتحمله للحصول على شهادة جامعية لها قيمتها. فى مطلع الشهر الماضى قابلت طالبة نجحت فى امتحانات يونيه، بعد أقل من أسبوع من انتهاء الامتحانات كانت لا تتذكر أى شيء عن المنهج وعن أبجدياته وكانت عاجزة عن قول أى شيء عنه.
قالت لى صديقة تعمل فى شركة أجنبية إن الشركة سعت فى السنتين الماضيتين إلى تعيين عدد من أصحاب تخصص ما، وفى كل مرة اضطرت الشركة إلى استبعاد المرشحين الحاصلين على شهادة فى هذا التخصص بتقدير امتياز، وتفضيل مرشح تعلم أصول التخصص فى منزله باستخدام المتاح على الإنترنت. لأنه أقوى من المنافسين وقادر على الاستيعاب السريع. هذه الواقعة تلخص الجوانب الإيجابية والسلبية فى مصر، منظومة التعليم لا تعلم ولكن هناك من يتغلب على المشكلة بأسلوب يقويه.
وقال لى صديق مهندس إن تعيين الشباب أمر فيه مخاطرة، التقدير لا يضمن الجودة، فترة التدريب هى التى تسمح بالحكم على المرشح وهناك من يتعلم أصول المهنة ويجيد فنونها بسرعة رغم تواضع تقديره النهائى فى الجامعة. وللأسف هذا النابغة سيسافر الخليج أو الغرب فى أول فرصة بعد أن يرتقى أداؤه.
وقابلت مرتين شابين من أبناء أحياء شعبية يتكلمان الإنجليزية بطلاقة مذهلة، ويملكان من المعرفة كمّا وكيفا جديرًا بالإعجاب، وقالا لى إنهما تعلما على النت ومن خلال الاحتكاك بأجانب.
وهناك مشكلة لا أريد الخوض فى تفاصيلها ولا أريد كتمانها، هل الطالب الذى يتم تعيينه معيدا فى الجامعة فعلا أفضل من فى دفعته؟ هناك مشكلة لا يمكن التعامل معها وهى موجودة فى كل العالم، لا يوجد ما يضمن أن من كان الأكفأ فى نهاية الدراسة الجامعية سيظل الأكفأ فى السنوات التالية على التخرج. تقليل حدة المشكلة يقتضى توفير إمكانية تعيين من لم يبلغ الأربعين فى السلك الجامعى إن كان ممتازا. وهناك مشكلة أخرى… فى منظومة قائمة على التلقين لا تضمن أن من ينضم للسلك الجامعى فور تخرجه أكفأ من زميله وقت التخرج.
يتبع
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية