خواطر مشتتة حول تاريخنا المعاصر
يُجمع المؤرخون على اعتبار ما يسمى الصحوة الإسلامية، أو العودة إلى الدين، أو شيوع تشخيص مفاده أن أزمة المجتمع لا سبب لها سوى البعد عن الدين، رد فعل طبيعيًّا على صدمة هزيمة يونيو 1967، وكل أبناء جيلى ومن يكبرونى سنًّا يتذكرون هول الصدمة، وردود الفعل عليها، كيف عاد من لم يكن يصلى إلى الصلاة، وكيف واجه الشعب بكل أفراده الكارثة بجدية غير مسبوقة، وجمع بين انضباط استثنائى واحتجاجات على القيادة، أجاد الكل، دولة وشعبًا، أغنياء وفقراء، عسكريين ومدنيين، لمغالبة أوضاع لم تكن فى صالحنا بالمرة. اليأس كان حاضرًا، والإصرار على تجاوزه كان طاغيًا، والصلاة والدين بئر تروى الكثيرين.
لا أقلل من أهمية النكسة التى أثّرت على كل من عاصرها، ولكننى أقول إن التقارب مع الاتحاد السوفييتى لعب دورًا مهمًّا فى تجهيز المسرح للعودة إلى الالتزام الدينى والتشديد على كونه ركنًا أساسيًّا من الهوية، شأنه شأن المسار التاريخى للغرب الذى بدا مقززًا للكثيرين، وشأن السياسات الأمريكية، ونكتفى هنا بالتقارب مع موسكو.
تفصيل ذلك أن هذا التقارب والتحول إلى الاشتراكية وعدد من السياسات الثورية عرَّضا النظام الناصرى لتهمة الإلحاد، ولتفنيدها حرص النظام على إظهار وإبراز تدين رموزه، وعلى اتباع سياسات وتبنِّى خطاب يُطمئن الفئات المتدينة.
وقبل هذا التقارب أسندت مسئولية الإشراف على منظومة التربية والتعليم والتعليم العالى وعلى الأدوات المنظمة للعلاقة بين السلطة والقواعد الريفية، بين العاصمة والمحافظات، إلى قيادات متدينة تقية، وبعضها إخوانى التوجه، ولم يتردد النظام وتبنَّى خطابًا دينيًّا لتشجيع الشعوب الشقيقة الواقعة تحت احتلال الاستعمار، على النضال من أجل الاستقلال والتحرر الوطني.
وفى كتابه الصادر فى الستينيات باللغة الفرنسية «مصر الناصرية»، قال حسن رياض (سمير أمين) إن ضباط الثورة مجموعة من المتعصبين دينيًّا ينتمون إلى البرجوازية الصغيرة، الوصف يخالف الواقع تمامًا – لم يكن أغلب الضباط من البرجوازية الصغيرة وكانت غالبيتهم متدينة تدينًا وسطيًّا – ولكن حسن رياض كان معذورًا فى تقييمه هذا القائم على مقارنة بين خطاب النخبة الجديدة وخطاب نخبة كبار المُلاك التى حكمت مصر قبل الثورة. يلاحظ – «على الماشى» فهذا ليس موضوعنا – أن بعض المراقبين الأجانب – أقصد تحديدًا مارسيل كولومب – وصف نخبة الوفد بأنها مجموعة من المتعصبين دينيًّا!
يلاحَظ أن الدكتور فواز جرجس يلفت نظرنا إلى أن تأثير الهزيمة لم ينحصر فى مد دينى جارف، بل تسبَّب أيضًا فى تطور تيارات يسارية أكثر راديكالية من الناصرية ومن التيارات الشيوعية الأقدم، وأن هذه التيارات كانت نشيطة للغاية فى الأوساط الطلابية والجامعية، ولو لم تخُنِّى الذاكرة، يقول الدكتور فواز إن قرار الأنظمة بالانحياز إلى التيارات الدينية هو الذى حسم المعركة بين اليمين واليسار. شخصيًّا التحقت بالجامعة، فى سبتمبر 76، وكان التيار اليسارى موجودًا بقوة – اختفى بعد انتفاضة يناير 77 – ولكنه كان واضحًا أن التيارات الدينية تجذب أعدادًا أكبر بكثير، وأن لغتها ومصطلحاتها وهمومها مفهومة للكافة، وطبعًا سيقول البعض إنها انتشرت لأن تمويلها سمح لها بنشاط خيري، ولأن منعها الاختلاط بين الجنسين تم فرضه بعنف بالغ الشراسة، تجاهلته السلطات الساداتية، كل هذا حقيقي، ولكن ما شاهدته أن هذه التيارات كانت تتمتع بشعبية حقيقية، وأن خطابها وممارساتها تناسب مزاج الطلبة والمدرسين أيامها، ولا سيما الريفيين منهم وأبناء مدن المحافظات المصدومين من الليبرالية النسبية السائدة فى القاهرة.
وكانت السبعينيات فترة يتسابق فيها الشباب المهتم بالشئون السياسية ليدلى بدلوه فى التجربة الناصرية، بالقدح الغبى وبالدفاع عنها التافه، وكنت منخرطًا فى هذه اللعبة متذبذبًا فى مواقفى سطحيًّا فى كل آرائي، ولكن سؤالًا شغل بالي، أغلب من أعرفه يكره «ناصر»، ولكنه يبرر موقفه بكلام وحجج واهية قبيحة فى لا أخلاقيتها، تدفعنى إلى حب هذا المكروه.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية