مع العمالقة الذين علمونى (4)
أواصل مشوار ذكرياتى مع من علمونى، محاولا بيان خصالهم الشخصية والجو العلمى الذى مكنهم من النبوغ، وما زلت أتحدث عن العملاق جان لوكا ومشوارى فى محرابه. قلت إن الحوار معه كان مدرسة لا مثيل لها تفتح آفاقا وتمنح معلومات ودرسا عمليا فى المنطق وفى التدقيق، وقلت إن محاضراته كانت صعبة، وقلت إن ذاتيته كانت تؤثر على تقييمه للأمور، وأسرع وأقول إن هذا العيب لم يظهر جليا واضحا قبل منتصف التسعينيات بعد محنة مر بها العملاق.
ما كان مذهلا هو عدد وتنوع مجالات اهتمامه وقدرته على «القول الفصل» فيها ولم أتكلم عن انتظار المختصين لمقالاته وخوفهم منها، وفى يوم ما كنت أنتظر دورى أمام مكتبه وكنت أسمع صوته العالى يقول لمن معه – الباب كان مغلقا- رأيه السلبى فى أعماله وأبحاثه بحدة مهينة وذكاء وخفة دم ممتعة، وتوقعت أن الضحية طالب فى سنة أولى وعندما فتح الباب خرج أستاذ كبير جدا ذليلا مكسورا، ولم يسامحنى أبدا لأننى كنت شاهدا على ما تعرض له، وبصرف النظر عن الأسلوب كان لوكا محقا فى نقده بل تدميره لأعمال الأستاذ المشهور عالميا.
ولم أشهد إهانة مثلها سوى مرة وهذه كانت علنية فى سمنار، طلب أستاذ كبير دعوته ليعرض كتابه فى سمنار وكان يرى فى بحثه عملا رائدا، ومن لم يحضر السمنار يشاركه الرأي، لأن الحجج والفكرة فى ظاهرها وجيهة. حضرت السمنار ورأيت لوكا يغلى وجورج لافو يدون ملاحظات، وعندما أنهى كلامه بدأ لوكا جملة وقاطعه لافو وقال… من فضلك يا جان من فضلكم يا زملائى الطلاب (!!!) بوصفى أكبركم سنا (ولم يضف «ومقاما») أطالب بحقى فى احتكار القصف وإن أردتم إضافة شيئا سأعطى لكم رقم تلفون الأستاذ الفاضل لتتفقوا على ميعاد بعد السمنار، اليوم أنا أتكلم… وشاهدنا تدميرا منهجيا لأفكار الكتاب الرئيسة وتصحيحا لكل التفاصيل وقدحا لضعف مستوى اللغة ولاختيار المراجع والتفسيرات. التعذيب استمر 45 دقيقة وكان لافو محبطا لأنه لم يقل كل ما عنده.
واقعة أخرى للافو قبل أن أعود إلى لوكا، كان لافو يدير سمنارا وتشرفت بالحضور سنتين على التوالي، فى يوم ما جاء بشاب كان أكبر منا بسنة أو سنتين، وقال «أتشرف بتعريفكم على أصغر دكتور دولة سنا فى تاريخ فرنسا، شاب حطم الأرقام القياسية فأصبح دكتور دولة قبل أن يتم الأربعة وعشرين ربيعا، وأشهد أنه فى عدد مذهل من المجالات أقوى منى وأعمق فهما، وسيعاوننى فى تعميق الحوار، لا سيما فيما يتعلق بمناقشة أفكار كاستورياديس ولوفور وموران».
ومن دواعى فخرى ومن إنجازاتى القليلة أن هذا الشاب أصبح صديقى الصدوق ومعلمى الأشد تأثيرا، ولاحقا أصبح صديق رئيس جمهورية ومدرس رئيس آخر… عن الدكتور جيل دولانوا أتحدث. تأملوا عظمة العملاق لافو…
نعود لجان لوكا وأستعين بمقارنة مع جورج لافو… الطلبة العرب – كانوا ثلاثة إن اعتبرنا القبائليين والأمازيغ عربا وبعضهم كان يرفض هذا بشدة- يفضلون لوكا ويستغربون من مواظبتى على حضور سمنار ومحاضرات لافو، وكانوا يرون أن لافو لا يبدى أى اهتمام لا بالعالم العربى ولا بالعالم الإسلامى ولا بالهند، وكان أحيانا عدوانيا معهم ومعي، وعقدوا مرارا مقارنات بين «ضيق أفقه» وموسوعية لوكا…
التقييم كان له ما يبرره ولكنه كان يهمل الجانب الآخر من الصورة، وهو أن لافو كان أكثر عمقا من لوكا – نعم هذا ممكن- فى عدد من الملفات، أغلبها متصل بالفكر اليسارى والماركسى والليبرالي، وكان يعرف أوروبا والولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية معرفة لا يعلى عليها، ولكى أوضح أقول إن لوكا فى هذه الملفات كان أعمق من أغلب المتخصصين، فالكلام ليس انتقاصا من قدراته.. ولكن لافو كان فيها أقوى.
يتبع
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية