خواطر مشتتة
رمضان كريم… أمضيت الأسبوع متابعا لأحداث الحرب الروسية على أوكرانيا ولتطور الأزمة الفرنسية وتعددت قراءاتى، ولى عادة سخيفة وهى قراءة عدة كتب والبحث فى عدة موضوعات فى آن واحد، أى إننى قرأت عشرات الصفحات فى عدد من الكتب ولم أنته من أى منهم، أعرف أن الأحسن هو الغرق فى كتاب واحد والانتهاء من قراءته قبل الانتقال إلى غيره، ولكننى عاجز عن الالتزام بهذا، لمزيج من السمات النفسية ومن تنوع الالتزامات ومن عادات لى فى قراءة المواقع الإخبارية.
عندما يستشهد كاتب مقال بأكاديمى أو مفكر لا أعرفه أقوم بالبحث عن أعماله لأتعرف على فكره وتوجهاته وهويته. ومن ناحية أخرى حاولت دائما الجمع بين الاهتمامات النظرية ودراسة أمهات الكتب وبين البحث فى معضلات العمل السياسى وفى مدركات القادة لها. وأعترف أننى لا أحب استسهال النقد والقدح الموجه لهم رغم عدم براءتى فى هذا الصدد.
المهم… هذا الأسبوع اتضح لى أن مؤرخا مرموقا خصص عمره لدراسة التاريخ الاقتصادى للأمم، أو لبعضها، ووصل إلى خلاصة أن الغالبية الكبرى للدول التى حققت طفرة فى الصناعة أو فى التكنولوجيا، بما فيها الولايات المتحدة فى القرن التاسع عشر، لم تعتمد فى أول مشوارها على كلام أدم سميث حول حرية السوق واليد الخفية التى تحقق توازنا يفيد الكل، العكس الصحيح، فى أغلب هذه التجارب لعبت الدولة دورا رائدا ونشيطا وتدخلت بكثافة لتدعم مشروعات بعينها، ولم تنسحب جزئيا أو كليا من السوق قبل نضوج قطاع خاص عملاق وديناميكى. هذا لا يعنى أن كل السياسات التى ترسمها وتطبقها الدولة موفقة وحكيمة، ولكن هذا يعنى أن مسؤوليتها كبيرة.
ومن ناحية أخرى تعاملت مع نصين إحداهما مصرى والآخر أجنبى عقدا مقارنة صريحة أحيانا وضمنية أحيانا بين الرؤى التى تدافع عن ضرورة التفسيرات المحلية للأديان، لمراعاة خصائص وطباع كل شعب، وبين الرؤى التى تقول أن عالمية الدين تعنى وجوب تفسيرات عابرة للحدود تلتزم بروح النص ولا تخضع لضرورات التعامل مع شعب محدد ودولة محددة ومراعاة “مزاجهم”… وتساءلت … ما هو موقفى الشخصى من هذه القضية… وأعرف أن المدرستين أو المقاربتين موجودتان فى المذهب الكاثوليكى الذى أنتمى إليه، وبعد تردد اخترت الرأى المتوجس من الكلام عن ضرورة وجود فهم مصرى أو فرنسى أو سعودى أو أمريكى… طبعا بيئة الفقيه تلعب دورا فى تشكيل رأيه شأنها شأن العصر الذى يعيش فيه، أو التراث الذى يتعامل معه منذ نشأته، هذه حقيقة لا تنكر، وهى ليست ضارة فى حد ذاتها، ولكننى أرى أن أولويات الفقيه هى التوصل إلى تفسير يصلح بقدر الإمكان لكل مكان وزمان، وأتهور قليلا وأقول على السياسة أن تكون محلية وعلى التفسيرات الدينية أن تكون عالمية، ولكننى لست متأكدا من صحة كلامى، أو من صحته فى كل الأحوال،
أتابع أداء الرئيس الفرنسى وأتساءل…هل المشكلة فى شخصه أم فى المناهج التى درسها فى بداية التسعينات أى فى جو النشوة الذى ساد فى الغرب بعد انهيار الشيوعية والإمبراطورية السوفيتية، وهل المشكلة فى النخبة ومدركاتها أم فى المجتمع ومدركات مكوناته؟ هل الأزمات الحالية نتيجة سياسات أسلاف ماكرون التى تراوحت بين تأجيل مواجهة المشكلات واختيار حلول لها وتبنى مناهج أثبتت التجربة خطئها؟ أم سببها رعونته ورفضه للحوار؟ هل إدارة التنوع الفرنسى عملية مستحيلة؟ كيف يمكن التعامل مع الاستقطاب الحاد بين مكونات المجتمع؟ كيف وصلت فرنسا إلى هذا المأزق وهى بلد تعج بالكفاءات الرفيعة فى شتى المجالات؟
وفجأة أجد نفسى مشتاقا، مشتاقا لأصدقائى الفرنسيين من كبار الموظفين ومن فطاحل العلوم السياسية، مشتاقا لحواراتهم المسائية فى صالونات هادئة دافئة، حوارات عميقة تتفادى فخ التفاؤل ومطب جلد الذات، حوارات أحباء تختلف مشاربهم.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية