خواطر مواطن مهموم (167)

خواطر مواطن مهموم (167)
توفيق اكليمندوس

توفيق اكليمندوس

6:44 ص, الأحد, 4 ديسمبر 22

سؤال نرجسى… كيف أتحدث عما رأيته وقرأته؟

الأعمار بيد الله، ولكننى غالبًا فى الربع الأخير من مشوارى فى هذه الدنيا. لم أتزوج ولم أنجب، وقد يكون أعظم القدماء على حق عندما قال إن العزوبية قد تنشئ علاقة خاصة بالصالح العام، قضيت عمرى فى مجتمعين يشتركان فى أشياء، ويختلفان فى الكثير، وفى المجتمعين كنت فى آن واحد هامشيًّا وقريبًا نسبيًّا من المركز الجغرافى والسياسى. خبراتى فى الحياة العملية ليست كبيرة، ولكننى سمعت أصحاب حياة حافلة وفاعلين يعملون فى الظل وفى صمت يتحدثون معى عن مشوارهم وتعلمت منهم الكثير. ولأسباب كثيرة كانت الكتب ملجئى.

أتساءل كثيرًا عن كيفية نقل تجربتى وحصاد قراءتى وأبحاثى للطلبة من ناحية، ولقراء مصريين ينتمون إلى الطبقات الوسطى ويهتمون بالشأن العام، الطلبة قضية أسهل؛ لأننى ملتزم إلى حد ما بالمناهج، أقول: إلى حد ما؛ لأننى أتمتع بهامش من الحرية فى المحاضرات. ورغم هذا فإن القضية شائكة؛ لأن آرائى تختلف عن آراء المتغلبين فى الساحة الأكاديمية، وعندما تكون فى الأقلية فإنك تتساءل دائمًا عن سلامة قناعاتك، وهل هذه القناعات ثمرة قراءاتك أم هى ثمرة تربية وتجارب السنوات الأولى من العمر؟ بعد ساعات وأيام من مواجهة الذات أعترف بأننى لا أملك ردًّا دقيقًا أو بسيطًا على هذا السؤال.

أعتقد فقط أن الصدف – وهى لعبت دورًا كبيرًا جدًّا فى مشوارى – والتوجهات الشخصية كانت متناغمة، تصب فى الاتجاه نفسه وتدعم بعضها البعض. وأعتقد أيضًا أن الصوفية على حق عندما يقولون إن الأذن أهم من العيون فى نقل المعرفة؛ بشرط أن تكون موفقًا فى اختيار معلمك وسميرك وزميلك. وإن كان لى فضل متواضع فى مشوارى فهو سعيى الدائم إلى صحبة من هو أعلم منى، وعدم ترددى فى تقمص دور التلميذ والطالب. وكان الأصدقاء من نِعم الله على، لا أذكر أن أحدهم امتعض من غباء أسئلتى أو سذاجتها. وأخصُّ بالذكر جامعيًّا مرموقًا لن يقرأ هذا الكلام؛ الدكتور جيل دولانوا أستاذ الفلسفة والنظرية السياسية بمعهد العلوم السياسية فى باريس، ولكننى أزعم أن مئات من المثقفين والكوادر والجامعيين والصحفيين لعبوا دورًا فى تعليمى وتثقيفى.

أفكر أحيانًا فى تأليف كتاب عنوانه “شاهد على أفول (أو تراجع) دولة أوروبية”، وأحيانًا أريد أن أسجل شهادتى عن روايات وسِير أبناء الأجيال المصرية الذين وُلدوا بين 1919 و1935 والذين تكلموا معى، ولكن الأغلب أننى لن أفعلها؛ إما لأن ضرورات كسب العيش تفرض أنواعًا أخرى من الكتابة، وإما استسلامًا لمخاوفى. فى الحالة الأولى أخشى ألا أكون موضوعيًّا، لا أخفى أن سنوات الدراسة فى فرنسا فى مطلع الثمانينات كانت من أجمل سنوات عمرى، وأولدت صداقات لن تخفت، وأن العمل فى مركز بحثى فرنسى فى مرحلتين من حياتى من أسوأ تجارب مشوارى، وأخشى أن جمال تجربة الدراسة ومرارة تجربة العمل يؤثران بالسلب على سردى. وفيما يخص شهادات العمالقة الذين بنوا دولة يوليه وخاضوا معركة التحرر الوطنى وانتصروا فيها وخاضوا معركتى تحرير فلسطين وتوحيد الشعوب العربية وخسروها، فإن أغلبها مِلك أصحابها، يختلط فيها العام والخاص، والبطولات والمشاوير المهنية العادية، والكوميديا والتراجيديا، والعبقرية والتفاهة. باختصار هى شهادات ستضايق حارسى المعبدين الناصرى والساداتى، وستضايق أيضًا من يرى فى صُناع يوليه وكلاء إبليس. هى شهادات لناس عادية – وإن كانوا متعلمين ومثقفين – أجبرتهم الأقدار على البطولة، ونجحوا أحيانًا، وأخفقوا أحيانًا أخرى.

وأواجه مشكلة أخرى، أعترف بأننى لا أحب مذهبين… تعمدت أن أستخدم مصطلح مذهب وتفادى كلمة فرقة أو فريق؛ لأن مشكلتى مع أفكار، وليست مع أشخاص أغلبهم أحسن منى، لا أحب من ينبهر بالغرب، ولا أحب من يرفضه ويكرهه، أكره كتاب إدوار سعيد عن الاستشراق، وأكره من يطبل للغرب.

* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية