خواطر مواطن مهموم 163 لا تعلنوا أفول الولايات المتحدة (3)

خواطر مواطن مهموم 163 لا تعلنوا أفول الولايات المتحدة (3)
توفيق اكليمندوس

توفيق اكليمندوس

10:26 ص, الأحد, 6 نوفمبر 22

لو أدخلت على آلة بحث جوجل كلمتى “أفول الولايات المتحدة” ستجد العشرات بل المئات من المقالات والدراسات والكتب تتناول هذه القضية، فمن الواضح أنها تشغل بال الكثيرين، وتتنوع الردود.

بصفة عامة، علينا أن نميز بين المد والجذر للمكانة والأفول، بين التراجع المؤقت الذى يمهد لانطلاقة جديدة، وبين التراجع الذى لا يتوقف ولا يجد من يقاومه بجِدية.

أحد مؤرخى الاقتصاد يقول إن أية ثورة تكنولوجية كبيرة تتسبب، عندما تحدث، فى أزمة كبرى، فهى تبدأ بالقضاء على عشرات، بل مئات الآلاف من الوظائف، مما يتسبب فى كوارث اجتماعية، ثم تسمح بانطلاقة كبرى، والولايات المتحدة عرفت عددًا كبيرًا من الثورات التكنولوجية.

مفهوم الأفول يفترض المقارنة. لا شك أن نفوذ الولايات المتحدة، اليوم، أقل من نفوذها سنة 1945 أو سنة 1991، لكن هذين التاريخين استثنائيان، سنة 1945 كانت كل الدول الكبيرة تعانى من آثار حرب استمرت بين ست وتسع سنوات وقتلت الملايين من أبنائها وعطّلت اقتصادها ودمّرت مُدُنها وأحرقت حقولها، وكانت الولايات المتحدة الدولة الوحيدة تقريبًا التى نَجَت من قصف المدن وتدمير البنية التحتية وإحراق ريفها، ودفع الرعب من الغول السوفييتي… من الجيش الأحمر العملاق وجحافله من الجنود المتوحشين… أبطال نعم ولكنهم أيضًا لصوص ومتحرشون… دفع الرعب عددًا كبيرًا من الدول إلى أحضان واشنطن.

وسنة 1991 انهار فجأةً المنافس الرئيس للولايات المتحدة؛ وهو الاتحاد السوفييتي. نعم كان فى ركود وتراجع، لكن الانهيار كان مفاجئًا، وأدار الرئيس بوش الأب الوضع العالمى لكى لا يتسبب هذا الانهيار فى فراغ وصراعات بحنكة يُحسد عليها. صحيح أن دول أوروبا الغربية كانت فى وضع أفضل من وضعها سنة 1945، لكنها لم تكن منافسًا يُخشى، الشوط الذى قطعته تلك الدول فى طريق الوحدة لم يكن كافيًا لاعتبار القارة لاعبًا له شأنه، وكان من الواضح أن العملاق الجديد- ألمانيا الموحدة- سيكون مشغولًا لفترة بضرورات ترتيب البيت وإدارة آليات دمج مجتمعين- الألمانى الغربى والألمانى الشرقي- مختلفين تمامًا.

باختصار، الوضع سنة 1945 أو سنة 1991 كان عائدًا إلى اختفاء المنافسين ولم يكن طبيعيًّا، والتراجع الذى نتج عن صعود فاعلين فى بداية الألفية تراجع طبيعى لا يمكن اعتباره أفولًا، وفى المقابل نستطيع أن نتساءل: هل تبديد آلاف المليارات من الدولارات فى حروب طويلة مُرهقة مقدِّمة لأفول؟

لن أضيِّع وقت القارئ فى عرض حجج مَن يرى أن أمريكا فى أفول، ولن أتناول مظاهر تراجع نفوذها فى العالم، وصعود لاعبين طموحين يتطلعون إلى “مكان تحت الشمس”؛ لأننى أتصور أن القارئ يعرفها وقرأها وسمعها مرات.

سأقتبس من مقال نُشر فى مجلة فورين أفيرز: لا تزال الولايات المتحدة تحتفظ بمزايا تُحسد عليها: السكان الشباب، والهيمنة المالية، والموارد الوفيرة، والحدود الآمنة، والتحالفات القوية، والاقتصاد المبتكر. علاوة على ذلك، كما كتب صامويل هنتنغتون فى المجلة نفسها، فإن الولايات المتحدة تمتلك قدرة غير عادية على التصحيح الذاتي، حيث يلعب من يتوقع الأفول “دورًا لا غنى عنه فى منع ما يتوقعه”.

سأقول، من ناحيتي، إن السياسة تلعب دورًا هامًّا فى تقرير مصائر ومسارات الدول، وأن الرئيس الروسى بوتين قدَّم خدمة جليلة للولايات المتحدة وللصين بقراره شنّ حرب على أوكرانيا، مهما كانت نتائجها ستكون نتيجتها الرئيسة تسارع أفول روسيا، والأرجح أن أوروبا ستضعف أيضًا؛ لأن دينامو القارة- ألمانيا- بنى نموذجه الاقتصادى ليكون صناعيًّا تجاريًّا… معتمدًا على صناعات تحويلية تحتاج فى عملها إلى غاز روسى رخيص، وزاد الطين بلة قرار المستشارة السابقة ميركل التخلى عن الطاقة النووية كمصدر للطاقة.

الغالب أن المستفيدين الرئيسيين للحرب هما تركيا والصين.

للحديث بقية

* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية