البحث عن موضوعات
بصفة عامة تتشكل الفكرة التى أريد عرضها هنا خلال الأسبوع وتختمر، وأحيانًا قليلة أظل باحثًا عنها أيامًا طويلة، ثم تباغتنى قبل بداية كتابة المقال بقليل، وتظهر أمامى شامخة واضحة، وفى هذه الأحوال ينحصر دور القارئ فى حرصى على اختيار ألفاظ سهلة، وعلى النجاح فى الاختصار دون اختزال أو إخلال بالمعنى.
هذا الأسبوع استثناء، أمضيته كما أمضيت غيره فى جمع أكبر قدر ممكن من المعلومات عن أزمة روسيا وأوكرانيا، وتحليلها وتقييمها، وإن تركت هذه الأزمة أتركها لتحضير محاضراتى، أى دراسة التأريخ للثورة الفرنسية، وأخصص قليلًا من الوقت لمتابعة أحوال إيطاليا المقبلة على انتخابات وقفزة إلى المجهول، ولقراءة بعض المواقع العسكرية.
والاستثناء ليس فى تنظيم وقتى، بل فى عجزى التام عن تحديد موضوع أتناوله هنا، وفى عدم ظهور الفكرة إلى الآن، ميعاد كتاب المقال، فى الأيام الأولى من الأسبوع كنت متصورًا أننى سأكتب مقالًا عن القيم التى تعاديها الثقافة الشعبية المصرية، وهى الحرية والمساواة، ثم وصلت لقناعة أن المعالجة تتطلب قدرًا من التبحر لا أملك الوقت له، أو قدرًا من الثقة بالنفس والجرأة يسمح لك بالتعرض لقضية محورية دون دراسات وقراءات مسبقة، وأملك هذه الجرأة أحيانًا، ولكنها تخلت عنى فى هذا الشهر.
وفى يوم ما كنت غاضبًا من كم المتعاطفين مع الرئيس بوتين الذين يزعمون أنه حريص على الأمن القومى الروسى، ومدافع شرس عن بلاده، وجاء استيائى ليزيد حنقى على من يقول أن قضيته (قضية المتكلم) قضية أمن قومى، ليضفى عليها هالة وقدسية غير مستحقة.
وفكرت أن أكتب مقالًا يبحث فى تعريف مصطلحين… الأمن القومى والاستراتيجية، وبعد تفكير قررت تأجيل الفكرة آملًا أن يذهب الغضب، وأن أتمكن من كتابتها بهدوء وتروٍّ، ودون أن يطغى غرضى عليها –غرضى إثبات أن الرئيس بوتين ماهر تكتيكيًا ومخطط استراتيجى ضعيف، وأن سياساته أضرت بالأمن القومى الروسى كما يعرفه هو– فضلًا عن وجود تصورات أخرى لهذا لأمن القومى.
وفكرت أن أكتب مقالًا عن أداء الدبلوماسيين الروس، يوم الخميس كان حافلًا، فى الصباح شاهدت حوارًا بين مذيعة فرنسية والمتحدث باسم السفارة الروسية فى باريس، وبعد الظهر تابعت خطبة وزير الخارجية لافروف فى مجلس الأمن. والقاسم المشترك الكذب دون حياء، ولكن الأسلوبين مختلفان، الدبلوماسى الشاب وسيم، يسخر من كل سؤال تسأله المذيعة، ويتساءل كيف تصدق «كلامًا بقرشين»، ويرد بأكاذيب ضخمة وكأنه يشد لسانه لها ولكل الجمهور، وهى خرساء من هول المفاجأة والصدمة عاجزة عن الاستيعاب، أمامها من يتبجح ويقول مثلًا إنه لم يكن هناك متظاهرون، بل شباب خرج يحتفل وأحدث ضجيجًا، وصور نفسه، وتصدت له الشرطة لتمكن سكان الحى من النوم.
لافروف عينة مختلفة، يروى قصة نصف أسانيدها وقائع لا تفهم إلا فى سياقها وهو طبعًا لا يذكره، والنصف الآخر أكاذيب واضحة، وقصته هى أن روسيا هى التى تحترم القانون الدولى وحقوق الإنسان على عكس الغرب
وفكرت أن أبدأ سلسلة مقالات تتناول التغييرات فى موازين القوة فى أوروبا والناتو، كيف استفاد الرئيس التركى من الأزمة، ولكن هناك من هو أكفأ منى وأكثر أهلية، أو مقال عن صعود بولندا وجيشها وخططها لتطوير تنفسها، وهو موضوع بالغ الأهمية، ولكننى تناولته فى إطار عملى فى المركز المصرى للفكر الاستراتيجى، وفكرت فى كتابة مقال عن التوتر المكتوم بين فرنسا وألمانيا، ولكننى تصورت أنه لن يهم القارئ.
وهذا الاعتبار… «لن يهم القارئ» لعب دور فى استبعاد الأفكار التى وردت على خاطرى بعد ذلك، صعود أحزاب اليمين المتطرف فى أوروبا…. تصورات النخب الروسية خطرة على الأمن العالمى… لماذا استهترنا بقدرات ومهارات الرئيس بايدن وفريقه… كيف نلعب دورًا فى إعادة رسم ملامح وقواعد النظام الدولى.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية