للحرب الروسية الأوكرانية عدة جوانب، فهى صراع وجودى بين روسيا وأوكرانيا، الأولى تستهدف ضم أراضى الثانية بالكامل، سواء على مراحل أو مرة واحدة، ومحو الهوية الأوكرانية وفرض الهوية الروسية على سكان الأراضى محل النزاع، والجانب الثانى هو طبعًا صراع بين روسيا والناتو؛ وهو فصل من فصول الصراع على الهيمنة على النظام العالمى، ويميل أغلب الرأى العام المصرى إلى التركيز على الجانب الثانى وإلى الانحياز لروسيا وتصديق روايتها القائلة بأن تمدد الناتو لم يترك لها خيارًا. ولا ينفرد الجمهور المصرى بهذا الموقف؛ فهو موقف شعوب كثيرة من العالم الثالث.
الخطاب الدعائى الروسى يعلم هذا ويخاطب جمهوره وجمهور العالم الثالث، ويتحدث عن عدوانية الناتو ورغبة الغرب فى فرض نموذجه الحضارى على كل أنحاء المعمورة- ديمقراطية تمثيلية، ورأسمالية تميل إلى التوحش، وليبرالية تقدس الفردية وتوسيع نطاق كل أنواع الحريات، حتى لو جاءت على حساب الدين، ويقترح تحالفًا بين الأرثوذكسية والعالم الإسلامى لمناهضة هذا المشروع وطرح مشروع حضارى مختلف يدَّعى أنه يحترم خصوصيات كل شعب والقيم الدينية ويدافع عن القيم التى تعلى من شأن الجماعة والمقدس وتضيِّق حيز الحريات وحقوق الفرد.
ويقع الخطاب الغربى فى الفخ ويصور المعركة وكأنها معركة بين منظومة قيمه الراقية والمتحضرة التى تقدس الفرد والحريات ومستوى المعيشة، وبين أنظمة الحكم اللاديمقراطية واللاليبرالية التى تتذرع بذرائع مختلفة لتقمع الحريات والتى تستهين بحياة مواطنيها ولا تبالى بمستوى معيشتهم، والخطاب الغربى يقع فى الفخ لأنه أساسًا يخاطب نفسه ولم يتعود على فكرة ضرورة مخاطبة الآخرين، إضافة إلى كونه يُجمع على اعتقاد أنه أعلم من شعوب العالم الثالث بما تحتاج إليه هذه الشعوب.
ورأينا العالم يصدق روسيا لأنها تروى قصةً عشنا مثلها، روسيا تشتكى من احتقارهم إياها وهم احتقرونا، روسيا تتحدث عن تدخلهم فى الشئون الداخلية، وهذا حصل عندنا، وعن رغبة فى فرض نموذج حضارى، ونعتقد أنهم فعلوا معنا الشيء نفسه، روسيا تشتكى من تمدد عسكرى، وعايشنا غزو العراق وتأييدًا لسياسات إسرائيل المتمددة. روسيا تقول إنها ترفض الحريات إن أدت إلى الإضرار بمصلحة الجماعة وإلى ازدراء المقدس… ولنا رأى قريب من هذا الكلام،
المشكلة أن رواية روسيا تجافى الحقيقة مجافاة تكاد تكون تامة، روسيا ليست دولة من دول العالم الثالث تم التعامل معها بعدوانية واحتقار وتعال، هى دولة لها سلاح نووى وإسهامات هامة فى الحضارة الغربية، وهي- شأنها شأن دول غربية عديدة- دولة استعمارية أسست إمبراطورية، ولكنها على عكس الدول الغربية لم تقبل فكرة زوال عصر الاستعمار، وتميل إلى اعتقاد أن الدول والشعوب التى استقلّت عنها سرقت هذا الاستقلال ولا حق لها فيه. وما تسميه “احتقارًا لها” هو رفض طبيعى لمزاعمها حول حقِّها فى التحكم فى سياسات دول الجوار، يضاف إليها تصريح سخيف جدًّا للرئيس أوباما الذى وصفها بأنها قوة إقليمية.
أما عن تمدد الناتو فالموضوع يحتاج إلى كتب، نكتفى هنا بالقول إن دول أوروبا الشرقية- ولها خبرة فى الاحتلال الروسى وعقلية النخب الروسية- كانت تعرف ما تردده تلك النخب من أن استقلال من استقل أمر مؤقت وغير طبيعى، وأن روسيا ستعود، وهى ظلت تتوسل حماية الولايات المتحدة والناتو، وقبلت الدول الغربية ضمها إلى الناتو، ولكنها لم ترسل قوات إلى شرق أوروبا قبل غزو روسيا للقرم. الموضوع يحتاج إلى تفصيل ولكننا نكتفى بهذا هنا.
المجتمعات العربية لديها مشكلة كبيرة مع الفردية الغربية ومع ما نراه انحلالًا خلقيًّا غربيًّا، ولكننا لم نحسم أمرنا من الديمقراطية، بل ما زلنا نرى فى نموذجها غاية، والأهم أننا نرفض تدخل الغرب فى شئوننا، وهذا الرفض يلازمه تقديسنا لحدود الدول، وهو مبدأ تنتهكه روسيا باستمرار- ربما أكثر من واشنطن.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية