عن جمال عبد الناصر 2
قال لى مرة سفير من جيل عبد الناصر إنه يتعين على الفرد الذى لم يعرف تجربة الاحتلال أن يتفادى انتقاد من عاش فى ظله، كان يتحدث عن الفلسطينيين، ولكن الكلام ينطبق طبعًا على الأجيال التى خاضت معارك التحرر الوطنى.
لكن واجب المؤرخ أن يشرح ويقيّم، الشرح يقتضى تحديد ما كان ممكنًا وما كان مستحيلًا، ويقتضى الحديث عن ماضٍ حدث، وعن سيناريوهات وبدائلَ لم تحدث… طرق وخيارات استبعدها الفاعلون. وهنا يختلف المؤرخون.
رفاق كفاح عبد الناصر ينقسمون بين مؤيدى كل خطواته أو أغلبها، وبين من يميز بين مرحلتين؛ مرحلة الخمسينيات ومرحلة الستينيات، مثمنًا إحداها دون الأخرى، وباستثناء اليساريين، وربما هيكل، يميل أغلبهم إلى الدفاع عن رحلة الخمسينيات وأداء الزعيم والدولة، ويتحفظون على أداء الستينيات- لأسباب واضحة… حربى اليمن و67، وربما تجربة الاتحاد الاشتراكى، ومن لا يتحفظ على الستينيات ككل يقول إنه كان يتعين تغيير المسار والإستراتيجية ما بين 64 و65. هذا مثلًا موقف المرحوم حافظ إسماعيل فى مذكراته.
لا شك أن معركة تأميم القناة هى أعظم لحظات الأمة فى القرن العشرين، وأن النصر فيها- أى تحقيق الأهداف السياسية التى حددها الرئيس والتى عبّرت عن مطالبَ أجمع عليها المصريون- دفع مصر إلى صدارة العالم الثالث وحركة الانحياز. وهذا النصر توَّج كفاح أجيال من المصريين فى سبيل الاستقلال الوطنى.
وككل مصرى أفتخر بهذا وإلى يومنا لا أستطيع أن أستمع إلى خطاب التأميم دون أن يغلبنى الحماس ودون أن أقول.. كل كلمة فيه تمثلنى وقِيلت من أجل كرامتى وكرامة أشقائى فى الوطن. وما زلت أرى أن الاستماع إلى هذا الخطاب يجب أن يكون ركنًا أساسيًّا من مناهج التاريخ فى المرحلة الإعدادية.
والمؤرخ الذى يحاول أن ينكر حجم الإنجاز متبنيًا كلامًا من عيّنة “القناة كانت عائدة عائدة” أو عبد الناصر كان محظوظًا لأن الهزيمة العسكرية كانت منكرة، وما أنقذه هو قرارات الدولتين العظميين، ولا سيما قرارات الرئيس إيزنهاور، هذا المؤرخ يقول كلامًا يجانبه الصواب، إلى اليوم لا أفهم كيف تصوَّر البريطانيون والفرنسيون أن مخططهما قد ينجح، فلنفترض أنهما نجحا فى الوصول إلى القاهرة وفى قتل عبد الناصر- على فرض أن الأخير انتظرهما فى العاصمة… ماذا بعد؟ هل تصورا أن حكومة عميلة ستكون قادرة على حكم البلاد؟ وعلى خدمة مصالحهما؟ هل تصورا أن المقاومة الشعبية ستنهار؟ كل تحليلاتهم افترضت أن ناصر هتلر جديد… ولا شعبية له. ولم يفهما أنه أصبح رمز الشعب المصرى، وقائده وممثله، ومن ناحية أخرى… لو كانوا ينوون إعادة القناة لامتنعوا عن الحرب.
ولكن ضخامة الإنجاز التى لا تنكَر لا تعطى حصانة لكل قرارات ناصر التى سبقته والتى تَلَته. أعرف صعوبة المرحلة، وشدة المدّ الثورى والتحررى، أعرف البراعة التى أدار بها ناصر عددًا من فصولها، وأميلُ شخصيًّا إلى الدفاع عن أغلب القرارات، وربما كلها.
ولكننى فى حيرة من أمرى، هناك أحوال نرى فيها أن كل قرار على حدة من قرارات القائد مفهوم ومبرَّر وصائب، ورغم هذا لا نكون مستريحين للحصيلة الإجمالية لتلك القرارات… والعكس صحيح… نرى أن عددًا معتبرًا من قرارات قائد جانبها الصواب… ولكن الحصيلة النهائية معقولة.
تحديدًا أتساءل… هل كان التفاهم مع الرئيس إيزنهاور مستحيلًا؟ هل كان حل القضية الفلسطينية مستحيلًا؟ هل كان يمكن إيجاد سبيل يمنع أو يقلل من هجرة اليهود المصريين والمتمصرين وأبناء بعض الجاليات الأجنبية؟ ومن حق آخرين أن يسألوا… لماذا لم يقم ناصر نظامًا ديمقراطيًّا وهو فى قمة مجده بعد حرب السويس؟ أعتقد أن دراسة متأنية وجدلًا جادًّا سيؤديان إلى تبرئة ناصر، ما يضايقنى هو عدم طرح هذه الأسئلة.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية