مشوارى مع الروس والسوفييت (5)
عجيبٌ أمر الذاكرة. فى المقالات السابقة تحدثت عن مناظرات باريسية حول لينين واللينينية، وحول الصراع بين الاتحاد السوفييتى والولايات المتحدة، واليوم كنت وما زلت بصدد كتابة مقال عن كتاب “حاضر سوفييتى وماض روسي” الذى اشتريته أيامها، فى مطلع الثمانينات، وبعدها بعشرين، أو خمس وعشرين سنة، تعرفت على كاتبه عند صديق مشترك فى لقاء طويل وتكرَّر حسدنى الجميع عليه.
أقبلت على كتابة هذا المقال، وتذكرت فجأة أن الكتاب إياه لم يكن أول كتاب أقرأه عن الواقع السوفييتي، أول كتاب كان مؤلفًا لمنشق اسمه أندريى أمالريك، عنوانه “هل يستطيع الاتحاد السوفييتى أن يبقى على قيد الحياة سنة 1984؟”؛ وهو كتاب صدر فى فرنسا سنة 1970، قرأت مقالاتٍ عنه فى الصحافة الفرنسية فى منتصف السبعينيات، وعثرت عليه فى مكتبة قاهرية بعدها بسنتين.
أمالريك كان طالبًا يحضر رسالة دكتوراه عن بدايات الدولة الروسية فى العصور الوسطى، وفوجئ بالقبض عليه لأن تحليل الرسالة لهذه البدايات يناقض التحليل الماركسي، واعتُقل لسنوات طويلة، وكان يحب أن يقول: لم أستطع أن أكمل كلامى عن البدايات؛ لأسباب خارجة عن إرادتي، وأرجو أن يعوّضنى الله تعويضًا لا مثيل له ويسمح لى بأن أكون شاهدًا على النهاية”، ولم يُكتب له هذا، فمات فى حادثة سيارة مشبوهة فى إسبانيا…
نسيانى لهذا الكتاب ليس أمرًا عجبًا لأنه لم يؤثر عليّ تأثير غيره، هذا الكتاب تحليل عميق للعلاقات بين النظام السوفييتى والمجتمع أو المجتمعات السوفيتية، وبين الدولة والمثقفين والفنانين، وهى علاقة تعتمد على جهاز بيروقراطى مترهل غير كفء يؤمن بأيديولوجية تافهة (الفهم الستالينى لماركس) وكاذبة ولا علاقة لها بالواقع. وكنت أنا صغير السن قليل الخبرة غير قادر على تذوق عمق التحليل وجديده.
ومن ناحية أخرى تصوَّر الكاتب سيناريوهات انهيار الاتحاد السوفييتى وبَدَت لى غير واقعية. رصد عوامل تراجع أداء الاتحاد السوفييتي، وقدر أن حربًا بينه وبين الصين آتية حتمًا، وأن هزيمة الاتحاد مؤكَّدة، وأنه سيترتب عليها انهيار كامل للدولة، وكان من السهل لصبى مراهق مثلى استبعاد هذا الكلام نظرًا لوجود السلاح النووي، كنت أفضِّل سيناريوهات غيره؛ متفائلة كانت أم متشائمة، الأخيرة كانت تتوقع جمودًا وأفولًا بطيئًا ومستمرًّا. باختصار، الأجزاء الخاصة بالتنبؤات وعدم قدرتى على تذوق التحليل العميق للواقع دفعنى إلى نسيان الكتاب. طوال مشوارى المهنى عدت مرارًا إلى كتب المراهقة أقرؤها من جديد وأكتشف فيها ما فاتني، وربما يكون كتاب أمالريك الاستثناء الوحيد.
والطريف أننى تذكرته، اليوم، فجأة وتذكرت فى الوقت نفسه مكانه فى مكتبتي، ووجدته دون بحث أو مجهود، وهذا نادر الحدوث معي، ورأيت فى هذا إشارة تحثنى على الحديث عن هذا البطل، يقول الرجل إن اعتراف الحزب بجرائم ستالين، وقيام خروشوف باستبعاد أو تصفية رجال سلفه، وتخفيفه من الرقابة على الأعمال الثقافية والفنية مع ضم ما يناسبه من أعمال مستقلة إلى الثقافة الرسمية، كل هذا ولّد لدى العامة أملًا فى تغيير جذرى فى سياسة النظام الإعلامية تجاه الشعب، ليكفّ عن اللجوء إلى لغة خشبية لا تعنى شيئًا وليذكر الحقائق ويتحدث عن الواقع، ولم يكن النظام مستعدًّا لتقديم مثل هذا التنازل المغير لجوهر وآليات علاقته مع الشعب، ودخل المثقفون على الخط من ناحية، وازدادت أهمية ووزن المدن مع هجرة الريفيين من ناحية أخرى.
ونشأت شبكات طبع ونقل ونشر سرّيّة للأعمال الأدبية الممنوعة، وتدريجيًّا ظهرت معارضة سياسية وتيارات سياسية فكرية معارِضة، بعضها ماركسى يرى أنه يمثل الماركسية الحقيقية على عكس النظام، وبعضها مسيحى يريد تأسيس مجتمع على قيم وتعاليم مسيحية، وبعضها ليبرالى يريد قيام حياة ديمقراطية، أبناء هذه التيارات يفترضون أن هناك مشتركًا بينهم ولكنهم عاجزون عن تحديده.
يتبع
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية