مشوارى مع روسيا والاتحاد السوفيتى (2)
فى مدرسة العائلة المقدسة فى أولى وثانية ثانوى حثّنى الآباء اليسوعيون على قراءة دوستويفسكى، ومن ناحيتى عثرت فى مكتبة الأم على كتاب الحرب والسلام لتولستوى، ونصحنى مدرس اللغة الفرنسية بقراءة بلزاك؛ الأديب الفرنسى العظيم.
واشتريت بمصروفى المتواضع مؤلفات دوستويفسكى وبلزاك وقرأتهما بالتناوب.
فى الظاهر هناك تشابه بين أسلوبيهما، فكتاباتهما كالحمم البركانية، لكن هناك فوارق بينهما، الروسى يدرس للنفس البشرية ويتعمق فى تحليلها، يكره الأجانب؛ أو بمعنى أدقّ يكره البرجوازى الأوروبى الغربى المتّزن الحصيف، ويمقت أنصاف المثقفين الداعين إلى العمل الثورى والمؤمنين بأن نبل الغاية يبرر أكثر الجرائم بشاعة، وهو ضعيف فى تحليل السلوك النسائى، باستثناء السلوك الهيستيرى، والأهم من هذا أنك لا تستطيع ترك الكتاب، وإن تركته وعُدت إليه، عليك أن تبدأ من الصفحة الأولى؛ أى أن قراءة دوستويفسكى تقتضى التفرغ لعدة أيام وتُنهى الكتاب وأنت فى حالة إرهاق عصبيّ؛ لأن الكاتب يخاطب عقلك الباطن، وفى الصفحات القليلة التى لا يفعل فيها هذا ينطلق فى عرض أيديولوجيته القومية الروسية الأرثوذكسية المؤمنة بأن روسيا دار الإيمان، وعليها إنقاذ البشرية. لكى أكون صريحًا شكّكتنى هذه الصفحات فى حدْسى، فلولا تحذير مَن حرّر المقدمة- أصبح فيما بعد أحد أساتذتى وأشرتُ إليه فى المقال السابق- لَمَا انتبهت إلى سموم هذا الفكر إذ كنت مراهقًا معرَّضًا للميل إلى التطرف فى جو السبعينيات المسموم طائفيًّا فى مصر.
بالزاك مختلف، يخاطب العقل والوجدان، تستطيع أن تتركه فترة ثم تعود إليه، يرسم صورة كاملة شاملة للمجتمع الفرنسى، ولبيوته وشكل مُدُنه، ولأغلب أوساطه وتطورها بين الصعود والتراجع، فهو مصدر أساسى لعلماء الاجتماع والتاريخ، وهو محلل موهوب لنفس وسلوك النساء، وهو يحبهن دون أوهام تعظِّم من قدرهن ودون سوء ظن بهن، وأعترف بأن قراءة كتبه هذّبتنى وساعدتنى على فهم النفس البشرية.
عن تولستوى سأكتفى بالقول إن الحرب والسلام أعظم عمل أدبى قرأته فى حياتى.
فى سنوات دراستى بجامعة القاهرة عثرت فى مكتبة المركز الثقافى الفرنسى على كتاب «أفيون المثقفين» للفيلسوف الفرنسى ريمون أرون، وكتاب «تركة لينين» لكاتب فرنسى من أصول مَجَرية اسمه فرانسوا فايتو، والكتابان بمثابة مصل ضد الفكر الماركسى، الأول يحاول أن يحلل أسباب انبهار المثقفين الفرنسيين بالفكر الماركسى، ودوافع انحيازهم للاتحاد السوفيتى، ويتناول بالنقد والتحليل والسخرية بعض الأساطير المؤسِّسة لبعض تيارت الفكر اليساري؛ منها الماركسى، وهذا الكتاب كان إلى حدٍّ ما سهل الفهم، جامع بين منهج نقدى فلسفى ومنهج علوم اجتماعية وفهم عميق للعلاقات الدولية ومقارنة بين النموذجين الأمريكى والسوفيتى. وهو لعب دورًا مهمًّا فى تطورى الفكرى وفى مكون نفسى لشخصى المتواضع- العجز عن احترام فصائل من المثقفين الفرنسيين وهى فصائل قالت: أن تكون مخطئًا مع (فى صف) سارتر أفضل من أن تكون محقًّا مع (فى صف) أرون. وأصبحت غايتى محاولة الجمع بين التسامح مع الأفراد وعدم مهادنة الأفكار التى أراها فاسدة، بل شنّ حرب عليها بلا هوادة. وأكون كاذبًا إنْ قلت إننى نجحت دائمًا فى التمسك بهذا المنهج.
وأعتقد أننى قرأت أيضًا كتابًا هو عبارة عن مناظرة بين سارتر وأرون حول مزايا وعيوب النموذجين الأمريكى والسوفيتى، قلت «أعتقد»؛ لأننى لا أتذكر هيكل الكتاب، هل قام صحفى بتوجيه أسئلة للعملاقين؟ هل جمع بين شهاداتهما؟ هل هى فعلًا مناظرة؟ أتذكر فقط أن منطق أرون بدا أكثر قوة وواقعية، وأن كلام سارتر بدا شديد التهافت، وجملة لأرون.. لو كانت الأرقام التى يعلن عنها الاتحاد السوفيتى حقيقية، ولو كان الاتحاد السوفيتى قادرًا على تحقيق نصف ما يدّعى أنه أنجزه، لكان هو القوة العظمى الوحيدة فى العالم دون أى منافس، واستغرب أرون من سذاجة سارتر.
تابع
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية